«إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ»، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لَهُمْ وَاخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ وَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا قَالَ: «مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، أَيْ يُلِحُّونَ فِي السُّؤَالِ وَنَحْنُ إنَّمَا نُقَدِّمُ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ دُونَ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} [البقرة: 273]، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقْرَ مَعَ الصَّبْرِ أَسْلَمُ لِلْمَرْءِ وَأَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْفَقْرُ أَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى جِلْدِ الْفَرَسِ».

فَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ لِلطُّغْيَانِ وَالْفِتْنَةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] وَرُوِيَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْصَى إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَى إلَى الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ أَيْضًا فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وَأَوْصَى إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي حَوَائِجِهِ وَعُمَرُ أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ أَوْصَى إلَى أَحَدٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ إنَّمَا: «أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، وَبِهِ اسْتَدَلُّوا عَلَى خِلَافَتِهِ، فَقَالُوا مَا اخْتَارَهُ لِأَمْرِ دِينِنَا إلَّا وَهُوَ يَرْضَى بِهِ لِأَمْرِ دُنْيَانَا.

وَيَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا أَوْصَى عَلِيٌّ إلَى وَلَدِهِ الْحَسَنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَأَوْصَى حَمْزَةُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ»، وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْسَانٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَالَ هُوَ السُّدُسُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ مُطْلَقُ لَفْظِ السَّهْمِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى السُّدُسِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالُوا السَّهْمُ السُّدُسُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِثْلُ أَخَسِّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ عَنْ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ سِهَامًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَذِكْرُ السَّهْمِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ وَأَخَسُّ السِّهَامِ مُتَيَقَّنٌ فِيهِ إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ السَّهْمُ فَحِينَئِذٍ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا إنْ لَوْ ذَكَرَ السَّهْمَ مُعَرَّفًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَكُمْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ السَّهْمَ بِهِ وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.

وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّتَيْنِ فَالْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا أَمْلَكُ وَبِظَاهِرِهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015