الْوَلِيَّ يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ وَالْمُكَاتَبُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمَوْلَى إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَرَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَسْلَافِهِ: اعْلَمْ بِأَنَّ الْجِنَايَةَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا سَوَاءٌ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَلَكِنْ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنَايَةِ الْفِعْلُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، فَإِنَّهُمْ خَصُّوا الْفِعْلَ فِي الْمَالِ بِاسْمٍ وَهُوَ الْغَصْبُ وَالْعُرْفُ غَيْرُهُ فِي سَائِرِ الْأَسَامِي، ثُمَّ الْجِنَايَةُ عَلَى النُّفُوسِ نِهَايَتُهَا مَا يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فَقَدْ جَعَلَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَتَخْرِيبِ الْعَالَمِ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَهُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ فِي الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ وَفِي الْإِعَانَةِ لِكُلِّ مَنْ اسْتَعَانَ بِهِ، فَإِنَّ التَّعَاوُنَ بَيْنَ النَّاسِ ظَاهِرٌ فَاَلَّذِي يَقْتُلُ الْوَاحِدَ يَكُونُ قَاطِعًا لِهَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَأَيَّدَ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قِتَالُهُ لِإِيمَانِهِ فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْجِنَايَةِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرَى التَّوْبَةَ لِلْقَاتِلِ الْعَمْدِ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِقَبُولِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ مَا تَقُولُ فِي مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَقَالَ جَزَاؤُهُ " جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا "، فَقَالَ: إلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى، فَقَالَ: وَأَنَّى يَكُونُ لَهُ الْهُدَى؟ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يُؤْتَى بِقَاتِلِ الْعَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ وَالْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ».
وَلِعَظْمِ الْجِنَايَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لَمْ يَرَ عُلَمَاؤُنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْوَعِيدَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لَا يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَالذَّنْبُ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرْفَعَهُ الْكَفَّارَةُ وَيَسْتَوِي فِيهِ إنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ لَا يَجِبُ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا، وَالرَّجُلِ إذَا قَتَلَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا عَمْدًا.
وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ وَلَكِنْ لَا يَقُولُ إنَّ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْمَآثِمِ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَالْوَعِيدُ مَنْصُوصٌ - عِنْدَهُ - عَلَيْهِ؟، وَاسْتَدَلَّ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ