ثُمَّ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَيُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْطَى نَفَقَةَ السَّفَرِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَا حَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي، فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ، وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فَهَذَا مِنْهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ لَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِنَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وَسَوْقَ بَدَنَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فَضْلٌ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْلَى، ثُمَّ الْقَارِنُ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ، وَيُجْزِيهِ فِيهِ الشَّاةُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْبَدَنَةَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بَقَرَةٌ، أَوْ جَزُورٌ، فَهُوَ حِينَ سَاقَ الْبَدَنَةَ قَدْ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَأَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ فِي سَوْقِ الْبَدَنَةِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِأَدَاءِ ذَلِكَ نَظَرَ الْحَاكِمُ إلَى ثِقَةِ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِي الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِلْكِرَاءِ، وَالنَّفَقَةُ، وَالْهَدْيُ فَيَلِي ذَلِكَ الرَّجُلُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ، وَمَا أَرَادَ مِنْ الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ مَخَافَةَ أَنْ يُتْلِفَهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ضَاعَ مِنِّي، فَأَعْطُونِي مِثْلَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ وَلِيِّهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ، وَإِذَا وَلَّاهُ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ، وَلِيِّهِ فِي الْهَدْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يُبَاشِرَهُ، أَوْلَى بِأَمْرِهِ، أَوْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ، فَإِنْ اصْطَادَ فِي إحْرَامِهِ صَيْدًا، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ أَذًى أَوْ صَنَعَ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْ مَالِهِ لِمَا صَنَعَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ جِنَايَةٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فَيُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ لِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ السَّفَهِ.
فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ إنْ اُبْتُلِيَ بِأَذًى فِي رَأْسِهِ، أَوْ أَصَابَهُ وَجَعٌ احْتَاجَ فِيهِ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ، أَوْ يَتَصَدَّقَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا بَأْسٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ إلَّا بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ الثَّابِتَةَ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ لَمْ تَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْعِبَادَةُ