قُلْنَا هَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ظَاهِرًا فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَحْبِسْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَلَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك بِالْقَذْفِ وَقَضَيْت عَلَيْك بِاللِّعَانِ فَالْتَعَنَ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى هَذَا فَالْتَعَنَ الرَّجُلُ كَمَا لَوْ وَصَفْت لَك وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يُمْضِي اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَتَمْضِي الْفُرْقَةُ وَيَجْعَلُهَا بَائِنًا مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا لَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أُشْهِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَنَّى لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بَعْدَ مَا جَحَدَ ثُمَّ الْتَعَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيقًا صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك أَنَّك قَذَفْت هَذَا الرَّجُلَ بِالزِّنَا وَقَدْ قَضَيْت عَلَيْك بِالْحَدِّ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَجَلٌ قَدْ قَذَفْته بِالزِّنَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ ضَرَبَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَذْفِ وَلَوْ قَالَ قَدْ شَهِدَ عَلَيْك الشُّهُودُ بِالْقَذْفِ فَلَتُقِرَّنَّ بِذَلِكَ أَوْ لَأَحْبِسَنَّكَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَذَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ اللِّعَانِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَلَكِنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِزُورِ فَالْتَعْنَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْحَجْرِ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءٌ: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجَا، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولُو الرَّأْيِ، وَالنُّهَى وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا وَاعْتِبَارًا بِالْحَجْرِ الثَّابِتِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ بَعْدَمَا صَارَ مُمَيِّزًا بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ اسْتِدْلَالًا بِالنُّصُوصِ