حَسَنًا} [النحل: 67]، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ شَرْعًا مَا هُوَ حَلَالٌ، وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَيَبْقَى مَا سِوَى الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْآيَاتِ بَيَانُ حُكْمِ الْخَمْرِ، وَمَا كَانَ يَكْثُرُ وُجُودُ الْخَمْرِ فِيهِمْ بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ مِنْ الشَّامِ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَابُهُمْ مِنْ التَّمْرِ، وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ» فَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى التَّنْصِيصُ عَلَى حُرْمَةِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَيْدِيهمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ.
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْكَرْمِ، وَالنَّخْلِ»، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ بَيَانَ الِاسْمِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ مَا بُعِثَ مُبَيِّنًا لِذَلِكَ، وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَوَاضِعُ اللُّغَةِ خَصَّ كُلَّ عَيْنٍ بِاسْمٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى الْغَيْرُ بِهِ مَجَازًا لِمَا فِي الِاشْتِرَاكِ مِنْ اتِّهَامِ غَفْلَةِ الْوَاضِعِ، وَالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ لِأَجْلِ الصُّفْرِ،: قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]، فَقَدْ قِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ إضْمَارٌ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، أَيْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا، وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا؟ فَإِنْ طُبِخَ مِنْ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخِهِ، أَوْ ذَهَبَ مِنْهُ بِالطَّبْخِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ، ثُمَّ اشْتَدَّ، وَغَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا طُبِخَ حَتَّى نَضِجَ حَلَّ شُرْبُهُ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ: إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ النِّصْفُ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ الثُّلُثَانِ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَرِهَ الثُّلُثَ أَيْضًا، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَطَرِيقُ مَنْ تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَانَ الْكُلُّ مُبَاحًا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَمَا عَرَفْنَا هَذِهِ الْحُرْمَةَ إلَّا بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَمِنْ أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ فِي الْكُلِّ قَالَ: نَصُّ التَّحْرِيمُ بِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مُسْكِرًا، فَهُوَ مُخَامِرٌ لِلْعَقْلِ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الِاسْمُ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَقِيقَةً، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازًا