- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَبَ فَدَكَ لَهَا وَأَقَامَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضُمِّي إلَى الرَّجُلِ رَجُلًا، أَوْ إلَى الْمَرْأَةِ امْرَأَةً فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ جَعَلَتْ تَقُولُ مَنْ يَرِثُك فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوْلَادِي فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَيَرِثُك أَوْلَادُك، وَلَا أَرِثُ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ يَكُونُ صَدَقَةً، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ.
وَقَدْ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَتَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَسْلَمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ فِيهِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً قَبْلَ الْوَقْفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَهُ مَمْلُوكَةً وَالْمَمْلُوكُ بِغَيْرِ مَالِكٍ لَا يَكُونُ فَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهَا مَمْلُوكَةً أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَالِكُ، أَوْ غَيْرُهُ وَلَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ، وَبَيَانُ قَوْلِنَا أَنَّهَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالزِّرَاعَةُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ، وَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ مَمْلُوكَةً فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً إلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَبِالْوَقْفِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْعِتْقَ فَالْآدَمِيُّ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِيَكُونَ مَالِكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ عَارِضٌ مُحْتَمِلٌ لِلرَّفْعِ. وَإِذَا رُفِعَ كَانَ مَالِكًا كَمَا كَانَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ انْعِدَامُ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً وَتَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَقَدْ وَجَدْنَا لِهَذَا الطَّرِيقِ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ فَتِلْكَ الْبُقْعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً مُتَحَرِّزَةً عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ فَأَلْحَقْنَا سَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِهَا وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ بَلْ الْوَقْفُ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَخْرُجُ بِهِ الْعَيْنُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً مُنْتَفَعًا بِهَا.
وَلَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ. فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ، أَوْ دَارِهِ. وَإِذَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ فِيهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ حَقٍّ يَسْتَثْنِيهِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الْوَقْفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ تَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لِشَغْلِهِ إيَّاهُ بِحَاجَتِهِ وَالنَّاسُ لَمْ يَأْخُذُوا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا بِاشْتِهَارِ الْآثَارِ. فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَلَامُهُ قَوِيٌّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْآثَارَ عَلَى الْوَقْفِ الْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وَإِنَّمَا الْبَيَانُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ