يَكُونُ تَمْلِيكًا كَالْعِتْقِ كَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا بَاشَرَهُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ فِي الصِّحَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إذَا كَانَ مُؤَبَّدًا وَصَارَ الْأَبَدُ فِيهِ كَعُمْرِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي لُزُومِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْوَقْفُ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُ الْعَيْنَ عَنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ امْتِنَاعُ زَوَالِ مِلْكِهِ فَلِزَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي مِلْكِهِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَكِنَّهُ لَمَّا حَجّ مَعَ الرَّشِيدِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَأَى وُقُوفَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا رَجَعَ فَأَفْتَى بِلُزُومِ الْوَقْفِ فَقَدْ رَجَعَ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ (إحْدَاهَا) هَذِهِ (وَالثَّانِيَةُ) تَقْدِيرُ الصَّاعِ بِثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ (وَالثَّالِثَةُ) أَذَانِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْوَقْفَ وَهُوَ بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ وَقْفُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَعْنِي اتِّخَاذَ الرِّبَاطَاتِ وَالْخَانَاتِ وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ حُجَّةٌ، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ لِهَذَا وَسَمَّاهُ تَحَكُّمًا عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَقَالَ مَا أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَّا بِتَرْكِهِمْ التَّحَكُّمَ عَلَى النَّاسِ.
فَإِذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَتَحَكَّمُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ أَثَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ لِمَ يُقَلِّدُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، وَلَوْ جَازَ التَّقْلِيدُ كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَحْرَى أَنْ يُقَلَّدُوا وَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا قَالَ. وَقِيلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ انْقَطَعَ خَاطِرُهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ حَتَّى خَاضَ فِي الصُّكُوكِ وَاسْتَكْثَرَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ كَالْخَصَّافِ وَهِلَالٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأَحْيَاءِ حِين قَالَ مَا قَالَ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَيْت رَجُلًا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةُ مِنْ ذَهَبٍ لَدَلَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كُلُّ مَجَرِيٍّ بِالْجَلَاءِ يَسُرُّ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ يَلْزَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً بِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا.
فَكَذَلِكَ