كَانَ ضَامِنًا لَهَا؛ لِوَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ مُتَمَلِّكًا؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلَا يَتَمَلَّكُ أَحَدٌ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إلَّا بِالضَّمَانِ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ حِينَ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ، فَهُوَ بِالْجُحُودِ صَارَ مَانِعًا الْمَالِكَ عَنْ مِلْكِهِ، مُفَوِّتًا عَلَيْهِ يَدَهُ الثَّابِتَةَ حُكْمًا؛ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ: ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ إذَا جَحَدَهَا، لَا فِي وَجْهِ الْمُودَعِ، فَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ: مَا حَالُ وَدِيعَةِ فُلَانٍ عِنْدَك؟ فَجَحَدَهَا، أَوْ جَحَدَهَا فِي وَجْهِ الْمُودِع، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ بِأَنْ قَالَ لَهُ: مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك؟ لِيَشْكُرَهُ عَلَى حِفْظِهَا، فَجَحَدَهَا. وَذَكَرَ الْفَصْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِمَا ذَكَرَ: أَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُتَمَلِّكٌ لَهَا، وَمُفَوِّتٌ يَد الْمَالِكِ حُكْمًا.

(وَقَالَ) أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ؛ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاقِيًا وَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ، يَدُهُ كَيَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الْجُحُودَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مِنْ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِدَفْعِ طَمَعِ الطَّامِعِينَ عَنْهَا؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ.

فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ جُحُودِ الْمُودَعِ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ كَذَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمُسْتَوْدَعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ضَاعَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ ضَامِنًا، وَهَلَاكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ ضَاعَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ، فَجُحُودُهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَلِأَنَّ الْمُنَاقِضَ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ. وَإِنْ قَالَ: لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَوْدَعْتنِي وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ: فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الْجُحُودِ يُؤَكِّدُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُكهَا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَيَّامٍ: لَمْ أُعْطِكَهَا، وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ، لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا. وَطَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا وَقَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ، لَوْ تَكَلَّمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا، فَبِمَجْمُوعِهِمَا كَيْفَ يَصِيرُ ضَامِنًا؟ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، (أَحَدُهُمَا):

أَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا - لَا مَحَالَةَ - وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جُحُودٌ لِيَكُونَ ضَامِنًا.

(وَالثَّانِي):

أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ: رَدَدْتُهَا، أَوْ هَلَكَتْ، مُعْتَبَرٌ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ، لَا فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَصِيُّ شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْهُ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِالرَّدِّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015