أَخَذَهَا مِنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مَا الْتَزَمَهُ شَرْعًا، وَهُوَ إظْهَارُ التَّعْرِيفِ، وَبَعْدَ إظْهَارِ التَّعْرِيفِ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا إلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْرِيفِ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ هُوَ الْعَزِيمَةُ وَالتَّصَدُّقُ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا رُخْصَةٌ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الصَّدَقَةَ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُهَا وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الضَّمَانَ، وَإِذَا اخْتَارَ الضَّمَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُلْتَقِطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْمِسْكِينِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ مُكْتَسِبٌ سَبَبَ الضَّمَانِ الْمُلْتَقِطُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْمِسْكِينُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْلِيكِ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ، أَمَّا الْمِسْكِينُ فَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَهُ ثَوَابُهَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمِسْكِينِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَاتِّصَالِ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا. فَكَانَ لَهُ صَرْفُهَا إلَى نَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ إلَى نَفْسِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَاشْتَرَى بِهِ طَعَامًا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وَلَوْ كَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُلْتَقِطِ صَرْفُهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ لَمَّا أَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ، وَمَا يَثْبُتُ لَهُ بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، كَالْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ وَلِصَاحِبِهَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إلَى مَنْفَعَتِهِ بِبَدَلٍ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ، فَكَانَ مَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذَا أَظْهَرَ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا بَلْ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ فِي الْأَخْذِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِنَفْسِهِ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ