(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ السَّلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45]، وَقَالَ الْقَائِلُ:
رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو ... إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
فَمَا يُسْتَعْمَلُ بِالْعُهُودِ وَالتَّوْثِيقِ وَالْقُوَّةِ يُسَمَّى يَمِينًا، وَقِيلَ: الْيَمِينُ الْجَارِحَةُ فَلَمَّا كَانَتْ يُسْتَعْمَلُ بَذْلُهَا فِي الْعُهُودِ سُمِّيَ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْعَقْدُ بِاسْمِهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ قَسَمًا إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَفِي الشَّرْعِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِذَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ بِحَالٍ. وَالنَّوْعُ الْآخَرُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْإِيجَابُ، وَلَكِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُرْوَى عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَرِدْ عَدَدُ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ فِي أَحْكَامِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: يَمِينٌ يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ لَا يُكَفَّرُ، وَيَمِينٌ يَرْجُوا أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا، فَأَمَّا الَّذِي يُكَفَّرُ فَهُوَ يَمِينٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِإِيجَادِ فِعْلٍ، أَوْ نَفْيِ فِعْلٍ، وَهَذَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَفِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ، وَهِيَ فِي وُجُوبِ الْحِفْظِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ مِنْهَا يَجِبُ إتْمَامُ الْبَرِّ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ أُمِرَ بِهِ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَبِالْيَمِينِ يَزْدَادُ وَكَادَةً