(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَلَاءَ نَوْعَانِ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، فَوَلَاءُ النِّعْمَةِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذِهِ الْعِبَارَةَ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ، وَالْآيَةُ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَقُولُونَ: سَبَبُ هَذَا الْوَلَاءِ الْإِعْتَاقُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ مَوْلًى لَهُ
، وَلَا إعْتَاقَ هُنَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ. يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَلَا يُقَالُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةَ. وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ مَا ثَبَتَ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاصَرُونَ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا: الْحَلِفُ وَالْمُحَالَفَةُ.
فَالشَّرْعُ قَرَّرَ حُكْمَ التَّنَاصُرِ بِالْوَلَاءِ حَتَّى قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ»، فَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ بِالْحَلِفِ، وَلِمَعْنَى التَّنَاصُرِ أَثْبَتَ الشَّرْعُ حُكْمَ التَّعَاقُدِ بِالْوَلَاءِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ حُكْمَ الْإِرْثِ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ تَفَاوُتٌ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ، أَمَّا ثُبُوتُ أَصْلِ الْمِيرَاثِ بِالسَّبَبَيْنِ فَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. وَالْمُرَادُ الْمُوَالَاةُ وَفِيهِ تَحْقِيقُ مُقَابَلَةِ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ وَيَرِثُ مَالَهُ، إلَّا أَنَّ الْإِرْثَ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَلِهَذَا قُلْنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْمُعْتِقِ فِي مُعْتَقِهِ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَدَعْ وَارِثًا كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتُهُ»، فَقَدْ شَرَطَ لِتَوْرِيثِهِ عَدَمَ الْوَارِثِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ