بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ لَعِبِ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ {، وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]»، وَقَالَ عَمْرٌو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ أَيْ نَافِذٌ لَازِمٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ جَدٌّ كَمَا قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ثَلَاثُ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ» وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَكُونُ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الصِّبْيَانِ لَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَنُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِوُجُودِ التَّكَلُّمِ بِهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ الْقَصْدِ إلَى الْحُكْمِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قُرِنَ بِهَا شَرْطُ الْخِيَارِ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] الْأَحْكَامُ، وَالْهُزْءُ اللَّعِبُ فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا لَعِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ،
وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَخُوك، وَمَوْلَاك فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ شَرٌّ لَهُ، وَخَيْرٌ لَك، وَإِنْ مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ، وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ. فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً، وَهُوَ تَرْغِيبُ الْغَيْرِ فِي شِرَائِهِ، وَالرَّجُلُ تَفَرَّسَ فِيهِ خَيْرًا حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاوَمَ بِهِ فَلِهَذَا اشْتَرَاهُ، وَأَعْتَقَهُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَخُوك أَيْ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ شَكَرَك أَيْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى مَا صَنَعْت إلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ أَزَلْت إلَيْهِ نِعْمَةً فَلِيَشْكُرْهَا، وَشَرٌّ لَك؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْك بَعْضُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا فَيُنْتَقَصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِك فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَشَرٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ مَذْمُومٌ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ يَكُونُ عَصَبَةً لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ، وَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مَنْ يُؤَخِّرُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَعْنَى