الاستحسان المحكي عن أبي حنيفة رحمه الله هو الحكم بما يستحسنه من غير دليل. واختلف المتأخرون من أصحابه في معناه، فقال بعضهم: هو تخصيص العلة بمعنى يوجب التخصيص وقال بعضهم: تخصيص بعض الجملة بدليل يخصها. وقال بعضهم: هو قول بأقوى الدليلين وقد يكون هذا الدليل إجماعا وقد يكون نصا وقد يكون قياسا وقد يكون استدلالا.
فالنص: مثل قولهم: إن القياس أن لا يثبت الخيار في البيع لأنه غرر ولكن استحسناه للخبر.
والإجماع: مثل قولهم: إن القياس أن لا يجوز دخول الحمام إلا بأجرة معلومة لأنه انتفاع مكان ولا الجلوس فيه إلا قدرا معلوما ولكن استحسناه للإجماع.
والقياس: مثل قولهم: فيمن حلف أنه لا يصلي: أن القياس انه يحنث بالدخول في الصلاة لأنه يسمى مصليا ولكن استحسنا أنه لا يحنث إلا أن يأتي بأكثر الركعة لأن ما دون أكثر الركعة لا يعتد به فهو بمنزلة ما لو لم يكبر. والاستدلال مثل قولهم إن القياس أن من قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أنه لا يكون حالفا لأنه لم يحلف بالله تعالى ولكن استحسنا أنه يحنث بضرب من الاستدلال وهو أن الهاتك للحرمة بهذا القول بمنزلة الهاتك لحرمة قوله والله وهذا أيضا قياسا إلا أنهم يزعمون أن هذا استدلال ويفرقون بين القياس والاستدلال فإن كان الاستحسان هو الحكم بما يهجس في نفسه ويستحسنه من غير دليل فهذا ظاهر الفساد لأن ذلك حكم بالهوى واتباع للشهوة والأحكام مأخوذة من أدلة الشرع لا مما يقع في النفس وإن كان الاستحسان ما يقوله أصحابه من أنه تخصيص العلة فقد مضى القول في ذلك ودللنا على فساده وإن كان تخصيص بعض الجملة من الجملة بدليل يخصها أو الحكم بأقوى الدليلين فهذا مما لا ينكره أحد فيسقط الخلاف في المسألة ويحصل الخلاف في أعيان الأدلة التي يزعمون أنها أدلة خصوا بها الجملة أو دليل أوقى من دليل.