الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الحادي والثلاثون، وهو اللقاء الشهري الذي يتم في ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة ليلة الأحد التاسعة عشرة من جمادى الثانية عام (1416هـ) .
في هذه الليلة نتكلم عن تفسير القرآن الكريم، وذلك لأن الله عز وجل أنزل هذا القرآن للناس ليتلوه، وتحصل لهم البركة بتلاوته، فمن قرأ حرفاً منه فله عشر حسنات، فإذا قال الإنسان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ففي كل حرف منه عشر حسنات، لأن كل حرف منه حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أنزله الله تعالى شفاء لما في الصدور، والصدور هي محل القلوب، ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] والتي في الصدور هي القلوب، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] .
القلوب يكون عليها صدأ ويكون بها مرض إما من غلبة شهوة، أي: من غلبة إرادة تميل بالإنسان عن الحق، ينشغل بالدنيا عن الدين، ينشغل بحب الرئاسة حب الجاه حب الشرف حب التبجيل والتكريم عن الذل والخضوع لرب العالمين -نعوذ بالله من ذلك-.
القلوب فيها مرض شبهة، يشتبه الحق على الإنسان فلا يميز بين الحق والباطل، بل ربما يرى الباطل حقاً والحق باطلاً فيهلك.
القلوب عليها صدأ صدأها المعاصي، وإذا تراكمت المعاصي على القلوب سدت عنها طرق الخير، قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا} [المطففين:13-14] أي: ليست أساطير الأولين {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] تراكم واجتمع عليها ما كانوا يكسبون من الأعمال السيئة حتى رأوا أعظم كلام رأوه أساطير الأولين.
ولذلك اعلم أنك كلما حجبت عن فهم كلام الله فإنما ذلك من معاصٍ تراكمت على قلبك، وإلا لو كان قلبك نقياً وصافياً لرأيت أن كلام الله تعالى أعظم الكلام، وأصدق الكلام، وأحسن الكلام، وخير الكلام.
القرآن شفاء للأجسام، دعنا من أمراض القلوب أمراض خفية تداوى بهذا الوحي العظيم، لكن حتى الأمراض الحسية فإنها تداوى بهذا الوحي العظيم، نزل قوم بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم في سرية على قوم من الناس، ولكن هؤلاء الذين نزلوا بهم لم يضيفوهم، فتنحى الصحابة ناحية، فبعث الله عقرباً شديدة اللسع فلدغت سيدهم فتعب منها، فطلبوا راقياً يرقيه فقالوا: لعل مع هؤلاء القوم راقياً، فجاءوا إلى الصحابة وقالوا: إن سيدهم لدغ فهل عندكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، عندنا من يرقي، ولكن هل لديكم جُعل، -أي: عوض- قالوا: نعم لكم هذا القطيع من الغنم، أنجوا صاحبنا، فذهب أحد القوم وجعل يقرأ على هذا اللديغ بفاتحة الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قرأها عليه فقام حتى كأنما نُشط من عقال، أي: كأنه بعير فك عقاله، انبعث نشيطاً لقراءة الفاتحة عليه، فأخذوا القطيع حتى وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك، فقال: (خذوه واضربوا لي معكم بسهم) قاله عليه الصلاة والسلام تطميناً لقلوبهم وإزالة لما في قلوبهم من الشك.
ثم قال للذي قرأها: (وما يدريك أنها رقية؟) وهذا شيء مجرب، لكن لا ينفع إلا من آمن بذلك من قارئ ومقروء عليه، فإذا كان القارئ مؤمناً والمقروء عليه مؤمناً بفائدة هذا القرآن انتفع به المريض، أما إذا كان يقرأ على سبيل الشك والتجربة فإنه لا ينفع.
القرآن شفاء حتى للأمراض الحسية كما في هذا المثال، وكما جرب أن يكتب على الحزا، -قروح وبثرات تظهر في القدم أو في اليد أو في الذارع- يكتب عليها {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] إذا كتبت هذه الآية عليها مرة أو مرتين زالت بإذن الله نهائياً، ولو وضعت عليها كل دواء من الأدوية المعروفة ما نفع، لكن اكتب عليها هذه الآية تزول، وهذا شيء مجرب.
في عسر الولادة، تعسر الولادة على المرأة أحياناً، اقرأ في ماء، أو اكتب بزعفران على جدران الإناء الآيات التي فيها أن الله سبحانه وتعالى معتنٍ بالحمل، مثل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، ومثل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] ومثل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:1-2] وما أشبه ذلك من الآيات، ثم تشربها المرأة التي عسرت ولادتها وتمسح ما حول المكان وبإذن الله يسهل خروج الحمل، لكن كما قلت: المسألة تحتاج إلى إيمان من القارئ والمقروء عليه، فالحاصل أن القرآن كله خير.
لكن هل نزل القرآن لهذا فقط؟ لا {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] تدبر الآيات أي: التفكر بمعناها، وطلب معرفتها (وليتذكر أولو الألباب) أي: يتعظ، فبدأ الله عز وجل أولاً بمعرفة المعنى ثم بالعمل؛ لأن عملاً بدون معرفة المعنى لا يمكن، وربما يفسد العمل أكثر مما يصلح.