شهر المحرم فيه أيضاً عبر: وهو أن المسلمين اتفقوا على أن يكون هذا الشهر هو افتتاح السنين، وذلك أن الناس فيما سبق حتى في أول عهد الإسلام لا يؤرخون، لأن أمة العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، حتى جاءها هذا الكتاب العظيم فعلمنا الكتاب والحكمة، لكن فيما قبل ليس لهم تاريخ معين، ربما يؤرخون مثلاً بعام الفيل، فيقولون: هذا حصل عام الفيل، عام الفيل متى؟ لكن في عهد عمر رضي الله عنه عندما اتسعت رقعة الإسلام شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وصارت الرسائل تأتيه، ويشتبه عليه: هل هذه الرسالة قبل الرسالة الأخرى أو بعدها؟ قال: لا بد من تاريخ، وهذه من سنن عمر رضي الله عنه، قال: لا بد من تاريخ، فتشاوروا كعادتهم في النوازل إذا نزلت بهم نازلة تشاوروا: أولاً: من أين نبدأ التاريخ: هل من مولد النبي عليه الصلاة والسلام، أو من بعثته، أو من هجرته؟ إن كان مولده صار المسلمون أتباعاً للنصارى؛ لأن النصارى ابتدءوا التاريخ من مولد عيسى، والمسلمون يجب أن يكونوا أمة مستقلة، ذات طابع خاص، متميزة عن غيرها.
قالوا: إذاً نبدأ من البعثة؛ لأن ببعثته بدأ النور ينزل على هذه الأمة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] فيكون من البعثة، قالوا: نعم هذا رأي حسن، لكن البعثة لم يظهر فيها للإسلام دولة، ونحن نريد أن نؤرخ تاريخاً خاصاً بدولة الإسلام، والدولة لم تكن إلا بعد الهجرة، فإنه بعد الهجرة صارت الأمة الإسلامية لها بلداً خاصاً مستقلاً.
قالوا: إذاً يكون ابتداء التاريخ من الهجرة التي تكونت بها الدولة الإسلامية.
ثم اختلفوا اختلافاً آخر قالوا: من أي الشهور؟ قال بعضهم: من شهر رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.
وقال آخرون: بل من شهر ربيع الأول؛ لأن ربيع الأول هو الذي ابتدأ فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الذي كانت فيه هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالوا: وهذا رأي حسن، لكن فيه شيء، ما هو الشيء؟ أنه الشهر الذي توفي فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، فيخشى أن يكون هذا ذكرى لوفاته، ثم اختاروا أن يكون ابتداء التاريخ من المحرم؛ لأنه الذي ينصرف فيه المسلمون من أداء آخر أركان الإسلام وهو الحج، فكأن شهر ذي الحجة به تمام الأركان، فنبتدئ من شهر المحرم.
وما زال المسلمون سائرين على هذا حتى حصل استعمار الكفار لبلاد المسلمين، فغيروا التاريخ، ولهذا تجد عامة المسلمين الذين استعمرت بلادهم تجد تاريخهم يبتدئ بالميلادي، تحول من التاريخ الإسلامي الهجري إلى تاريخ كفري لا أصل له، وسبب ذلك هو الاستعمار، ولهذا نجد العلماء في الأمصار التي تؤرخ الآن بالتاريخ الميلادي، نجد العلماء يؤرخون بالتاريخ الهجري ولا يعرفون التاريخ الميلادي، انظر إلى تراجم العلماء السابقين في البلاد الإسلامية، يقولون: ولد هذا العالم في السنة الهجرية، في الشهر الهلالي، وتوفي في السنة الفلانية الهجرية في الشهر الهلالي، حتى استعمر الكفار بلاد المسلمين فغيروا التاريخ، ونسي التاريخ الإسلامي في هذه البلاد، حتى إن بعض الإخوة الذين قدموا إلينا قبل نحو عشرين سنة أو أكثر، قال: والله ما عرفت الأشهر العربية إلا حين أتيت إلى هنا!! لأنهم نشأوا على الأشهر الفرنجية والسنوات الميلادية.
وقد كره الإمام أحمد رحمه الله أن يؤرخ بالأشهر الفرنجية، فقال: (أكره بأن يؤرخ بآذرما) ، لأن هذا خلاف ما سار عليه المسلمون، والمهم أن هذا الشهر -أعني: شهر المحرم- هو ابتداء السنوات الإسلامية الهجرية.
ولكن مع الأسف أن بعض المسلمين الذين سلمت بلادهم من استعمار الكفار صاروا الآن يؤرخون بالتاريخ الميلادي، على الرغم من أن نظام هذه الدولة ونظام الحكم فيها أن التاريخ بالتاريخ العربي الإسلامي نصاً، ولكن مع الأسف أنك الآن يبيع لك صاحب البقالة وأحياناً يعطيك الفاتورة تاريخها بالميلادي، سبحان الله! هذا يخالف تاريخ الإسلام ويخالف تاريخ الدولة، ولهذا لو كان هناك متابعة تامة لنظام الدولة للأخذ على أيدي هؤلاء، قبل أن يكون هذا هو تاريخ المسلمين من أزمنة متباعدة، ولكن مع الأسف أن ضعف الشخصية في الرجل المسلم عندنا هي التي أدت إلى هذا الخذلان.
وأعجب من ذلك! أن المريض يُعطى وصفة بورقة للدواء بالتاريخ الميلادي والحرف اللاتيني، فيبقى المريض لا يدري، كتب له: خذ هذا الدواء يوم (19/9) وهو عامي يعتقد هذا الدواء متى يستعمل في رمضان! لأنه قيل له: في (19/9) ، أيضاً يستعمله ثلاث مرات، ويكتب له بالرقم غير المعهود عنده، فيختلف عليه الأمر، إذا قال: خذ سبع حبات وكتبها بالحرف الذي لا يعرفه يظن السبعة ستة، لأنها شبيهة بها، كل هذا والله يحزن الإنسان لأن هذا يدل على ضعف الشخصية.
لغتنا والحمد لله لغة عربية لغة القرآن لغة السنة، بل هي لغة أهل الجنة كما جاء في بعض الأحاديث، كيف نفرط بها؟ لماذا لا نعلم هؤلاء الذين يباشرون الشراء من إخواننا المسلمين الذين جاءوا من بلادٍ لا يعرفون اللغة العربية لماذا لا نعلمهم؟ لكن المشكلة الآن أنهم هم الذين علمونا لغتهم، بدلاً من أن نعلمهم صاروا يعلموننا ونتعلم منهم، بدلاً من أن يقول الواحد منا: ما أدري يقول: ما فيه معلوم، أيهما أخصر؟ لا أدري أخصر وأوضح وأبين وأصدق؛ لأن قوله: لا أدري نفي للعلم عن نفسك فقط، لكن: ما فيه معلوم نفي عن كل الناس، لكن مع الأسف بدلاً من أننا نعلمهم اللغة العربية صاروا هم الذين أثروا على ألسنتنا! وكل هذا من ضعف الشخصية فينا، والواجب أن تكون هذه الأمة لها ميزة وخاصية تنفرد بها عن سائر الأمم، ولا مانع أن تعامل كل إنسان بما يعرف، فمثلاً: إذا كنت أخاطب شخصاً لا يعرف العربية، وأنا أعرف لسانه لا بأس أن أكلمه بلسانه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود من أجل أن يكاتبهم ويراسلهم بلغتهم، وقال لـ أم خالد وقد قدمت من الحبشة وهي صغيرة عليها ثوب جديد، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا سنا هذا سنا) وسنا في لغة الحبشة أي: حسناً، يخاطبها باللغة التي تفهم، لكن لا يعني أن أخاطب الأخ العربي بلسان هذا الأخ الذي لا يعرف العربية كما هو الشأن في بعض الأحيان.
فنسأل الله تعالى أن يختم لنا عامنا هذا بالخير والقبول والمغفرة والعفو، وأن يجعل مستقبلنا في عامنا الجديد مستقبلاً حافلاً بالنصر والمسرات إنه على كل شيء قدير.