اللقاء الشهري (صفحة 639)

دعوة للمحاسبة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذا هو اللقاء الشهري الأخير في هذا العام عام (1415هـ) ، والذي يتم هذه الليلة، ليلة الأحد الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل خاتمتنا خيراً من ماضينا.

موضوع هذا اللقاء يشمل شيئين: الشيء الأول: ما الذي أودعناه في العام الماضي؟ الشيء الثاني: ماذا أعددنا للعام المقبل؟ وكلاهما يحتاج إلى عناية، أما الأول فما الذي أودعه الإنسان في عامه الماضي؟ هل كان قائماً بالواجبات التي لله عز وجل والتي لعباده، أم هو مفرط مهمل مضيع؟ هل أخلص لله في عبادته؟ هل محَّص عمله في اتباع شريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ هل قام بالصلاة على ما ينبغي؟ هل صلاها في أوقاتها؟ هل صلاها مع الجماعة؟ هل أدى شروطها وأركانها على ما يجب؟ هل أدى زكاة ماله؟ هل أحصاه إحصاءً دقيقاً وكأن مستحقي الزكاة يحاسبونه محاسبة دقيقة؟ هل أتقن صيام رمضان؟ هل قام فيه بما يجب؟ هل أتقن حجه إن كان قد حج؟ هل قام ببر والديه؟ هل قام بصلة أرحامه؟ هل قام بالإحسان إلى جيرانه؟ هل قام برحمة الأيتام؟ هل قام برحمة البهائم؟ هل قام بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل قام بالدعوة إلى الله عز وجل؟ هل قام بما يجب عليه من الإنفاق على أهله؟ هل قام بما يجب عليه من دفع أثمان المبيعات وأجور الأجراء؟ كل هذه تساؤلات يجب أن يعرف الإنسان الجواب عليها، إن كان قد فرط فيها فليتب إلى الله وليتدارك ما يمكن تداركه، وإن كان قد قام بما يستطيع وحسب ما أوجب عليه فليحمد الله على ذلك، وليسأل الله الثبات عليه.

إننا نعلم أن التجار إذا تمت سنة إدارة تجارتهم فإنهم يسهرون الليالي يتفقدون الدفاتر، ماذا دخل على المتجر؟ وماذا خرج منه؟ ماذا اكتسب الإنسان في هذه السنة وماذا خسر؟ حتى يتداركوا ما يمكن تداركه، أما التجارة العظمى وهي التي قال الله عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الصف:10-11] فإن هذه التجارة نحن في غفلة عنها، ولا نعلم ماذا أدينا فيها إلا أن يشاء الله.

ولهذا أقول لنفسي ولكم: الواجب علينا أن نتفقد أن ننظر فما يمكن تداركه قمنا به، وما لا يمكن استغفرنا الله منه وتبنا إليه عز وجل.

أما المستقبل: فالمستقبل في الواقع لا يمكن لأي أحد أن يجزم بما يفعل في المستقبل، ولو أنه جزم بما يفعل في المستقبل لعد سفيهاً مخالفاً لقول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] .

لقد سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قصة أصحاب الكهف، فقال: أخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فماذا كان من الله عز وجل، تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمدة خمسة عشر يوماً، ثم نزل الوحي، وفي تلك السورة قال الله لرسوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] وكان هذا من حكمة الله عز وجل أن تأخر الوحي بعد أن وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقص عليهم القصة، وفي هذا أكبر دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان صادقاً، إذ لو كان كاذباً للفق قصة من القصص وقال: هذه قصة أصحاب الكهف، لكنه لا ينطق في علم الغيب إلا بما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.

نحن لا نجزم بما نفعل غداً، ولا يمكننا أن نجزم، كم من إنسان أراد ولكن صار الواقع خلاف مراده! كم من إنسان أمل ولكن انقطع حبل الأمل! ولكن المؤمن مأمور بأن يستقبل الأيام بحزم ونشاط، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: جعل الليل والنهار يختلفان، يخلف بعضها بعضاً من أجل أن ينشط الناس، كل يوم يتجدد لهم النشاط.

كذلك الأعوام: جعل الله تعالى الأعوام أطول من الأيام بلا شك؛ لأنها شهور والأيام ساعات، لكنه سبحانه وتعالى كررها على العباد وجعل عدة السنة اثني عشر شهراً، حتى إذا تمت السنة وإذا بالإنسان يستجد نشاطه إلى سنة مقبلة.

فانظر يا أخي ماذا أعددت للسنة المقبلة، هل أعددت نشاطاً في فعل الخير، فأنفذ ذلك وأمضه، فإن العزيمة على الرشد تكون رشداً إذا فعله الإنسان، أما مجرد العزيمة بدون أن يكون هناك حركة فإنها تمنِّ يصح أن نصف صاحبها أنه عاجز، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) .

رتب وقتك حتى ينزل الله لك فيه البركة، رتبه ولكن لا تجعل هذا الترتيب أمراً متعيناً، لا.

بل هو على حسب الحال، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، لكن رتب نفسك، رتب عملك، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) مثلاً: اجعل لك ساعة تقرأ فيها كتاب الله عز وجل، وساعة تقرأ فيها من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وساعة تتفكر في معاني القرآن ومعاني الأحاديث، وساعة تتفكر ماذا عملت في يومك وماذا تركت، رتب نفسك حتى يبارك لك الله في أيامك وساعاتك.

أما من أهمل نفسه ولا يبالي أعمل أم لم يعمل! أنشط أم كسل! فهذا لا شك أنه مفرط، وأنه سيضيع عليه الوقت وسيندم يوم لا ينفع الندم، لأنه أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، قال: أنا إن شاء الله مؤمن، أنا سأكون من أهل الجنة، أنا سأكون كذا، ولكنه ليس معه عمل لا بد من عمل!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015