الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الإخوة: فإن هذا هو اللقاء الشهري الذي ينظمه مكتب الدعوة في الجامع الكبير في عنيزة، وهذا اللقاء في هذا الشهر يصادق ليلة الخامس عشر من شهر جمادى الثانية عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مثل هذه اللقاءات لقاءات خير وبركة.
كنا تكلمنا على تفسير قول الله تبارك وتعالى في سورة: (ق) (والقرآن المجيد) إلى قوله: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] .
قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:12-14] هذه الآيات فيها فائدتان: الفائدة الأولى: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تكذيبه ليس ببدع من الخلق، فالخلق من قبل الأمة التي بُعث فيها الرسول كذبوا رسلهم.
والفائدة الثانية: تهديد هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام، أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم، فهنا يقول الله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [ق:12] فمن نوح؟ نوح أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وكان الناس من قبل على دين آدم، وآدم نبي وليس برسول؛ لأن الناس لم يختلفوا حتى يُرسلَ إليهم رسولٌ يحكم بينهم.
كان الناس على هذه الملة عشرة قرون كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فاختلفوا لأنهم كثروا ونموا وتنازعوا فاحتاجوا إلى الرسل، فأرسل الله إليهم الرسل، وأول من أرسل نوحاً، أرسله إلى قومه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ولا يزيدهم ذلك إلا طغياناً، قال تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.
} [نوح:8-10] إلى آخره.
وأنزل الله في قصة نوح سورة كاملة؛ لأنه أول رسول وأول من كُذب، بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتوعدهم ولكن لم ينفعهم هذا الوعيد شيئاً، وأوحى الله تعالى له أن يصنع سفينة عظيمة، تحسباً لما سيقع، فجعل يصنع هذه السفينة، وكلما مر به ملأ من قومه سخروا منه، فقال لهم: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38-39] .
ولم يؤمن معه إلا قليل من قومه، وكفر به من قومه أحد أبنائه، ابنه الذي هو من صلبه يكفر به، وسبحان الله ما أعظم قدرة الله! نبي كفر به ابنه، ونبي آخر كفر به أبوه، من الذي كفر به أبوه؟ إبراهيم: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95] .
كفر به قومه، وما آمن معه إلا قليل، مع أنه بقي ألف سنة إلا خمسين عاماً، ونحن مساكين إذا دعا الرجل أهله لمدة يومين فلم يستجيبوا له، يمل ويكل ويترك الدعوة، ولكن الرسل لهم صبر لا يماثله صبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ونوح من أولي العزم.
النتيجة أهلكهم الله عز وجل، بماذا؟ قال الله تعالى: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:9-12] الماء النازل من السماء والماء النابع من الأرض: {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12] في قراءة أخرى: {فَفَتَّحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11] ففتَّحنا، والتضعيف يدل على الكثرة، يعني: جعلنا السماء كأفواه القرب تصب المياه، وجعلنا الأرض تجيش بالمياه، ولم يقل الله فجرنا عيون الأرض بل قال: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:12] كأن الأرض كلها صارت عيوناً.
وقد بين الله تعالى أن التنور الذي هو مكان النار الحارة اليابسة فار، فوصل الماء إلى قمم الجبال، وكانت امرأة من هؤلاء الكافرين معها صبي كلما ارتفع الماء صعدت على جبل حولها، كلما ارتفع صعدت الجبل، كلما ارتفع صعدت الجبل، حتى وصلت إلى قمة الجبل، ولما وصلت إلى قمة الجبل، وصلها الماء حتى ألجمها فرفعت صبيها عالياً من أجل أن تغرق هي قبل الصبي، وفي الحديث: (لو كان الله راحماً أحداً لرحم أم الصبي) لكن إذا نزل العذاب لا ينفع الإيمان، إذا نزل العذاب حلت حكمة عز وجل محل الرحمة، ولهذا لما غرق فرعون وأدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] .
انظر إلى كمال الذل ما قال: آمنت بالله، وإنما قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل فجعل نفسه تبعاً لبني إسرائيل، الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، أصبح الآن ذيلاً لهم، ولكن ما نفعه ذلك، وقيل له: {آلْآنَ} يعني: تؤمن {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] .
المهم أن هذه خلاصة رسالة نوح عليه السلام، وهنا نقطة: أننا نجد في بعض الشجر التي ترسم أسماء الأنبياء يجعلون إدريس قبل نوح، وهذا خطأ كبير، فإدريس ليس قبل نوح، بل هو من بني إسرائيل؛ لأن الله يذكر قصته مع قصة أنبياء بني إسرائيل، ولا يمكن أن نقول: إنه قبل نوح والله عز وجل يقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] ويقول جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ} [الحديد:26] فما من رسول قبل نوح.
وفي الحديث الصحيح حديث الشفاعة أن الناس يأتون نوحاً يوم القيامة ليشفع لهم فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض المسألة بينة واضحة ونكتفي بهذا القدر على قصص الأنبياء حتى نكملها إن شاء الله في جلسات قادمة.