الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الشهري الذي يتم في الأحد الثالث من كل شهر، وهو في ليلتنا هذه يوافق الليلة السادسة عشرة من شهر جمادى الأولى، عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، نسأل الله تعالى أن يكثر هذه اللقاءات مع أهل العلم ومع عامة الناس؛ لأن فيها فوائد جمة منها: اكتساب العلم؛ فإن هذه اللقاءات بين العلماء سواء في هذه البلدة أو في غيرها يستفيد منها الحاضرون علماً جماً بحسب ما عند الملتقى به.
ومنها: أن الناس يجتمعون هذا الاجتماع المبارك؛ ليتآلفوا بينهم ويجتمعوا على الحق، ويدخلوا في عموم الأدلة الدالة على فضل الاجتماع على حلق الذكر.
ومنها: أنه قد يكون عند الإنسان أشياء مشكلة، في نفسه، إما في عقيدته، وإما في عبادته، وإما في أخلاقه، وإما في معاملته، وإما في عامة المجتمع، وإما في مجتمعات أبعد وأوسع، فيلقي ما في نفسه في مثل هذه اللقاءات حتى تنحل عنه تلك الإشكالات الكثيرة التي قد تختلج في صدره.
ومنها: أن الناس يكتسبون علوماً ينفعون بها غيرهم، فإن العلم أبرك بكثير من المال، العلم إذا أبلغته رجلاً من الناس ولو مسألة واحدة فانتفع بها ثم نفع بها غيره، ثم الثاني نفع ثالثاً، والثالث رابعاً، وهلم جرا حصل من هذا خير كثير، ويحصل للإنسان أن يكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ولا تظن أن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (علم ينتفع به) يختص بالعلماء الراسخين في العلم، الواسعين في الاطلاع، الثاقبين في الفهم، لا.
حتى لو أنك بلغت آية من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفع الناس به بعد موتك فإنه يحصل لك أجر ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) وكان لقاؤنا في هذا المسجد (الجامع الكبير في عنيزة) نتتبع فيه التفسير، وابتدأنا فيه بسورة: (ق) لأنها أول المفصل، حيث قال العلماء: إنه ينبغي للإنسان في صلاته أن يقرأ منه، ففي الفجر يقرأ من طواله، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه، وطواله من (ق) إلى (عم) وقصاره من (الضحى) إلى آخر القرآن، وأوساطه ما بين ذلك، وذلك من أجل أن يكون الناس إذا سمعوا هذه التلاوة من أئمتهم في الصلاة يعرفون شيئاً من معناها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن مع ذلك يأس أن نلقي شيئاً تدعو الحاجة إلى إلقائه بدلاً عن هذا التفسير، مثل أن يحدث شيء يهم الناس معرفته.
وهذه الليلة سيكون نصيبنا مع تفسير شيء من سورة (ق) ، وتكلما فيما سبق إلى قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] حسبما كلمني فيه الإخوان أننا وصلنا إلى هذا الجزء من السورة.
وهذه الآية: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] معطوفة على قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] .
يعني: وأنبتنا به النخل باسقات، أي: عاليات: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] أي: منضود بحيث يكون متراكباً بعضه إلى جنب بعض على أحسن صورة وأحكمها؛ يكون مرتبطاً بهذا الشمراخ إلى أن يحين وقت أكله، فإذا حان وقت أكله سهل جداً أن يتناوله الإنسان بدون أن يتأثر هذا الرطب أو هذا التمر.
{رِزْقاً لِلْعِبَادِ} [ق:11] أي: جعلنا ذلك لرزق العباد؛ لأن العباد محتاجون إلى رزق الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث القدسي حديث أبي ذر الغفاري الذي رواه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ربه أنه سبحانه وتعالى قال: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم) كل العباد جائعون، من يستطيع أن يخرج حبة من الأرض؟ من يستطيع أن يخرج تمرة أو ثمرة من شجرة؟ لا يستطيع ذلك أحد.
إذاً: الذي أخرج لنا هذه الثمرات هو الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] بل أنت يا ربنا الزراع، والله لو بذرنا في الأرض كل حب، وسقيناه بكل ماء، وخدمناه بكل طعم، ما استطعنا أن نخرج حبة واحدة منه، ولكن الله تعالى برحمته وقدرته هو الذي يخرجها: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ} [الواقعة:64-65] أي: لو شاء الله عز وجل لجعله حطاماً بعد أن يخرج ويبرز ويطيب، يرسل الله عليه آفة من السماء فتحطمه، بعد أن تتعلق قلوبنا ونفوسنا به يحطمه الله عز وجل ولكن من رحمته جل وعلا وقدرته أن ينميه ويغذيه لنا حتى يطيب أكله ويسهل علينا ذلك.
يقول: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} [ق:11] إذاً: ما نجده من ثمار النخيل وغيرها من الأشجار، وما نحصده من الزروع كله رزق من الله لعباد الله عز وجل وقوله تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} [ق:11] هل المراد عباد الرحمن المطيعون لأمره أم جميع العباد؟ المراد جميع العباد ولهذا نجد هذه النخلات وطلعها موجوداً عند أكفر عباد الله؛ لأنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ولكني أقول لكم: ما يأكله الكفار من ثمرة، وما يرفعون إلى أفواههم من لقمة، وما يتجرعونه من شربة ماء فكله يأثمون به، ويعاقبون عليه يوم القيامة، والدليل على هذا قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] .
إذاً هي لغير الذين آمنوا ليست حلالاً في الدنيا ولا خالصة يوم القيامة، ولكنها حرام عليهم وهم معاقبون عليها يوم القيامة.
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] إذاً: من لم يؤمن هل عليه جناح فيما طعم؟ نعم.
عليه جناح فيما طعم؛ لأن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] إذاً: الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات عليهم جناح فيما طعموا؛ ويوم القيامة يحاسبون ويعاقبون عليه، وهذا كما أنه ثابت بدلالة السمع فهو أيضاً ثابت بدلالة العقل، إذ كيف تتمتع بنعمة الله وأنت تبارزه بالعصيان؟ ما الذي يحلل لك أن تتمتع بنعمه وأنت تكفر به؟ ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] وبهذا نعرف قدر نعمة الله علينا بدين الإسلام، نسأل الله أن يتمها علينا إلى أن نلقاه آمين آمين.
هؤلاء الكفار ما رفعوا من لقمة ولا تجرعوا من شربة إلا وهم آثمون عليه يوم القيامة يحاسبون به، وما لبسوا من ثوب إلا وهم محاسبون عليه يوم القيامة ويعاقبون على ذلك.
فلا تظنوا أن الجنة التي كتبت لهم في هذه الدنيا أنها ستكون يوم القيامة وروداً بل ستكون عذاباً عليهم يوم القيامة، بخلاف المؤمن؛ فالمؤمن هي له في الدنيا خالصة يوم القيامة ولله الحمد على ذلك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) كيف نشرح هذا الحديث؟ شرحه أن نقيم الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة سجن، ولذلك إذا مات الإنسان في يومه، فإنه يشاهد الجنة بل قبل أن يدفن، إذا أتته الملائكة تبشره تقول لروحه: (اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان) فتخرج مستبشرة منقادة، يسهل عليها أن تفارق هذا البدن التي سكنت فيه، ما شاء الله أن تسكن؛ لأنها بشرت بما هو خير، فإذا حمل الناس الجنازة على أعناقهم تقول: (قدموني قدموني) يعني: أسرعوا بي حتى أصل إلى النعيم، فإذا دفن الإنسان وأجاب الرسل (الملائكة) الذين يسألونه عن ربه ودينه ونبيه، فتح له باب من الجنة ووسع له القبر مد البصر، وأتاه من نعيم الجنة وروحها ما لا يكون أكبر نعيم في الدنيا عند هذا شيئاً.
إذاً: الدنيا سجن المؤمن؛ لأنه انحبس فيها عما هو أكبر منها نعيماً وأكبر منها ملكاً، لكنها بالنسبة للكافر جنة؛ لأنه حبس فيها عن عذاب وهوان وغضب، فإذا أتاه أول مبشر عند الاحتضار، يبشر بالعذاب والعياذ بالله، يقال لروحه (اخرجي إلى غضب من الله) فتخرج مكرهة لا تريد الخروج، ثم تقول إذا حملت: (يا ويلها أين تذهبون بها) فإذا نزلت في القبر وجاءتها الرسل الملائكة، ولم تجب الصواب، ضيق عليها القبر حتى تختلف أضلاعه من شدة التضييق ويفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها.
إذاً: الدنيا بالنسبة لهذا العذاب تكون جنة؛ لأنها الراحة، ويذكر أن الحافظ ابن حجر رحمه الله صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري كان قاضي القضاة في مصر، مثل رئيس القضاة عندنا أو وزير العدل (أكبر منصب في القضاء) وكان يركب عربة تجرها البغال من بيته إلى مكان عمله، وهذا أكبر ما عندهم في ذلك الوقت، فمر ذات يوم برجل يهودي زيات -يبيع الزيت- والزيات تعرفون ثيابه دنسة وهو متعب، فلما مر به ابن حجر أوقفه، وقال: إن نبيكم يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) وكيف يكون هذا؟ أنت الآن في نعيم وأنا في عذاب فكيف كانت لي جنة ولك سجناً؟ فقال له ابن حجر: نعم.
لأن ما أنا فيه من النعيم الآن بالنسبة للنعيم في الآخرة سجن، وما أنت فيه الآن من الشقاء بالنسبة لعذاب الآخرة جنة، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن الواقع انطبق تماماً على حاله وحال ابن حجر