جاء الكاتب ليكتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن هذه البسملة هي بسملة الرسل قال الله تعالى عن سليمان حين كاتب بلقيس ملكة اليمن في سبأ قال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] أملى النبي صلى الله عليه وسلم على الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال مندوب قريش: نحن لا نعرف الرحمن الرحيم، لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب (باسمك اللهم) تنازل، وسبب تنازله أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزل الحديبية كان إذا وجه ناقته نحو مكة بركت وأبت أن تسير، وإذا وجهها إلى الخلف سارت؛ فقال الصحابة رضي الله عنهم: خلأت القصواء، خلأت -يعني: حرنت- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق) .
انظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عن البهائم، لا يريد الظلم ولا أن تظلم البهيمة: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق) بل هي سهلة لينة منقادة مع قائدها، لا تبرك إلا حيث بركها، ولا تثور إلا حيث ثوّرها (ولكن حبسها حابس الفيل) الفيل الذي أرسله أبرهة إلى مكة ليهدم الكعبة به فحبسه الله تعالى، والقصة مشهورة في سورة الفيل.
المهم أن الكاتب لما أراد أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأبى مندوب قريش قال: (اكتب باسمك اللهم) ثم قال: (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشاً قال مندوب قريش: لا تكتب رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: اكتب محمد بن عبد الله، ثم قال عليه الصلاة والسلام.
والله إني لرسول الله وإن كذبتموني) ثم جرى الصلح، صلحاً عجيباً وكان من شروط الصلح التالي: الأول: أن توضع الحرب بينهم عشر سنين، الثاني: أن من شاء أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن شاء أن يدخل في عهد قريش دخل.
الثالث: أن من جاء من المسلمين إلى قريش فإنهم لا يردونه، ومن جاء من قريش إلى المسلمين فإنهم يردونه.
ما تقولون في هذا الشرط؟ شرط جائر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام التزم به؛ لأن فيه تعظيم حرمات الله.
الرابع: أن يرجع من عمرته هذه ولا يكمل العمرة، مع أنه لو جاء رجل مشرك من أقصى نجد لأذنت له قريش أن يدخل مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم أولى الناس بالمسجد الحرام يحرموا منه.
الشرط الخامس: أن يرجع النبي عليه الصلاة والسلام ولا يكمل عمرته وفي العام القادم يدخل مكة لكن معه السيوف في جرابها، ولا يمكث فيها إلا ثلاثة أيام فقط ثم يخرج.
جرى الصلح على هذه الشروط وحصل في هذا أخذ ورد من الصحابة، ومن أشد من تكلم في هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ناقش النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح، فقال: (كيف نرجع يا رسول الله؟! ألست تحدثنا أننا ندخل مكة ونطوف بالبيت قال: نعم.
كنت أقول هذا ولكن هل قلت لك: إنك تدخلها هذا العام.
قال: لا.
قال: إنك آتيه ومطوّف به) ولكن في سنة أخرى، ثم قالوا: (يا رسول الله! كيف نعطيهم أن من جاء منهم مسلماً رددناه إليهم ومن ذهب منا إليهم لا يردونه إلينا؟ قال عليه الصلاة والسلام: أما من جاء إلينا ثم رددناه إليهم فسوف يجعل الله له فرجاً ومخرجاً) وأما من ذهب منا إليهم، يعني: قد اختار لنفسه ما اختار.
وبعد ذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن ينحروا هديهم وأن يحلوا من إحرامهم ويحلقوا رءوسهم ويرجعوا إلى المدينة، فكأنهم رضي الله عنهم لشدة الأمر وشدة وقعه في نفوسهم تأخروا بعض الشيء، يرجون أن يكون هناك نسخ لما حصل، وليس قصدهم عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لعل النبي عليه الصلاة والسلام يرجع، فلما تلكئوا بعض الشيء دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة -إحدى أمهات المؤمنين- وكانت امرأة عاقلة، فرأته مغضباً فقالت: ما الذي أغضبك؟ قال: أمرت الناس بكذا وكذا ولكن لم يفعلوا، قالت: أتريد أن يفعلوا؟ قال: نعم.
قالت: اخرج وادعوا الحلاق واحلق رأسك، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام فدعا الحلاق فحلق رأسه، فجعل الناس يحلقون رءوسهم حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً.
سبحان الله! اقتداء الناس بأفعال الإنسان أكبر من اقتدائهم بأقواله.
فحلوا ورجعوا.