وهنا يجدر بنا أن نتكلم عن شروط التوبة هل كل من قال: تبت إلى الله يكون تائباً؟ لا بد من شروط، وشروط التوبة خمسة: الأول: الإخلاص لله عز وجل.
فمن تاب رئاء الناس فلا توبة له، ومن تاب خوفاً من سوط السلطان فلا توبة له، فلابد فيها من الإخلاص لله عز وجل، وإن كان الإنسان قد يحمله خوفه من السلطان على التوبة، لكن يتوب إلى الله مخلصاً، ولهذا شرعت الحدود في الزنا والسرقة والقذف وما أشبه ذلك، وهذه لا شك أنها تحمل الإنسان على ترك هذه الذنوب، لكنه يتركها لله لا لمجرد الخوف.
الثاني: الندم على ما فات.
يندم بقلبه ويتحسر ويقول: ليتني لم أفعل، ولا يجعل حاله بعد التوبة كحاله قبلها، بل لا بد من انفعال في النفس وندم، وليتني لم أفعل، لا اعتراضاً على القدر ولكن ندماً على ما فعل.
الثالث: الإقلاع عن الذنب.
وهذا هو بيت القصيد، وكيف يكون الإقلاع عن الذنب إن كان الذنب ترك واجب قام بهذا الواجب إذا كان يمكن قضاؤه، وأقول: إذا كان يمكن قضاؤه؛ لأن من الواجبات ما لا يقضى، مثلاً: لو أن الإنسان ترك الصلاة حتى خرج وقتها عمداً بلا عذر، فهنا لا يقضي الصلاة؛ لأنه لو قضاها لم تقبل منه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود عليه، أما لو أخرها لعذر كنوم ونسيان فيقضيها ولا حرج.
وإذا كان الذنب فعل محرم أقلع عنه في الحال ولا يكمل، فلو فرضنا أن إنساناً يأكل طعاماً لغيره ثم تاب في أثناء الطعام، فهل نقول: له أن يشبع، أو يجب عليه أن يكف؟ يجب عليه أن يكف، ولو استمر لم تصح توبته، لأنه لابد من الإقلاع في الحال.
ولو أن شخصاً استولى على أرض رجل من الناس وتبين له أن الأرض ليست له، فهل يبقي الأرض في ملكه، أم يجب أن يردها إلى صاحبها؟ يجب أن يردها إلى صاحبها حتى لو كان قد بنى عليها، يجب أن يردها إلى صاحبها، ويتصالح مع صاحبها إذا كان قد بنى عليها بنياناً، أو يترافعان إلى القاضي.
وإذا كان الذنب جحد دينٍ عليه، فتكون التوبة بأن يقر ويرده إلى صاحبه، أما أن يقول: أنا أخشى إن أقررت بعد أن جحدت أن تسوء سمعتي عند الناس، فنقول له جواباً على هذا: إذا ساءت سمعتك عند الناس زمناً قصيراً فستعود السمعة أحسن من قبل؛ لأن الله إذا رضي عن العبد أرضى عنه الناس، والناس إذا تأملوا في الموضوع ورأوا أن هذا الرجل خرج من المحرم عليه بصراحة أحبوه ورفعوا ذكره وزالت السمعة السيئة، لكن الشيطان يقول للإنسان: لا تقر وأنت قد جحدت أولاً، إذا أقررت بعد جحدك قالوا: هذا رجل متقلب، ما دام الأمر مضى امضِ، هذا غلط عظيم، قل الحق وسوف تكون العاقبة لك.
الشرط الرابع: العزم على ألا يعود في المستقبل.
فإن تاب من الذنب الآن ولكن في نيته أنه إذا حصلت فرصة فعله، فالتوبة غير صحيحة؛ لأنه لم يعزم على ألا يعود، بل تاب الآن لكن في نفسه أنه لو سنحت الفرصة لعاد إلى الذنب، فهذا لا تقبل توبته.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في زمن القبول.
انتبه إلى هذا الشرط: أن تكون التوبة في زمن القبول؛ بأن تكون قبل حضور الأجل، وقبل طلوع الشمس من مغربها، ذلك لأنه إذا حضر الأجل فإن التوبة غير مقبولة، وإذا طلعت الشمس من مغربها فالتوبة غير مقبولة، والدليل: قول الله عز وجل: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18] أخي المسلم: هل عندك أمان أنك ستبقى حتى تتوب؟ لا، إذاً: يا أخي! بادر بالتوبة قبل أن يدركك الأجل وأنت لم تتب {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء:18] .
وانظر شاهداً لهذا: فرعون الذي أرسل الله إليه موسى فكذبه، وخرج بجنوده ليقضي على موسى وقومه، حتى صار موسى وقومه بين البحر وبين فرعون وقومه، وهو بحر القلزم المسمى اليوم بـ البحر الأحمر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أي: أدركنا الآن، هلكنا، البحر أمامنا وفرعون خلفنا، فقال موسى قول المطمئن الواثق بالله عز وجل: {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، عصا من شجر عادي، لكن فيه آيات، فضرب البحر بالعصا، فانفلق اثنتي عشرة طريقاً، انفلق وصارت أسواق واسعة في وسط البحر والماء كالجبال بين هذه الأسواق، ثم إن هذه الأسواق صارت يابسة في الحال كما قال عز وجل: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} [طه:77] فدخل وموسى وقومه من هذه الأسواق، ثم أتبعه فرعوه وقومه، فأمر الله البحر فانطبق عليهم، فماذا قال فرعون لما أدرك الغرق؟ {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ، الآن آمن، وانظر كيف أذل نفسه غاية الذل بقوله: {إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ، فجعل نفسه تابعاً لبني إسرائيل، بينما كان في الأول عالياً عليهم، لكن اضطر إلى هذا {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ، فقيل له: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] أي: آلآن تتوب؟ هذا لا ينفع وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] أي: علامة، وذلك أن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون إرعاباً عظيماً، فلا تطمئن قلوبهم ولا تهدأ نفوسهم حتى يروا هذا العدو وقد هلك، فبقي الجسم وشاهده بنو إسرائيل واطمأنوا أنه قد أدركه الغرق، ولهذا قال تعالى: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] ثم بعد ذلك أكلته الحيتان وذهب، وما ذكر أنه موجود الآن في الأهرام فلا أساس له من الصحة، وكم من شيء اشتهر ولكن ليس له سند، والقرآن الكريم يقول: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} [يونس:90] انتهى موضوعه.
الأمر الثاني مما لا تقبل معه التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإذا حصل ذلك آمن الناس كلهم؛ لأنه حصل لهم أمر ليس باستطاعة أحد، الشمس الآن تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، فإذا طلعت من المغرب ورآها الناس آمنوا، وقالوا: لا يمكن أن تخلف العادة إلا ولها رب يدبرها، فآمنوا، ولكن الله يقول: {لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] .
هذه شروط التوبة خمسة، إذا تحققت تاب الله على العبد، اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا يا رب العالمين، وأن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا إنك على كل شيء قدير.