اللقاء الشهري (صفحة 2196)

الامتحان الأكبر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني من اللقاءات الشهرية التي تتم مساء كل سبت ثالث من كل شهر، نسأل الله تبارك وتعالى أن يديمها، وأن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ورزقاً طيباً واسعاً، هذه الليلة هي ليلة الأحد السابع عشر من شهر صفر عام (1421هـ) .

نذكر إخواننا جميعاً ونذكر أنفسنا ونحن في زمن الاختبار والامتحان لطلابنا من ذكور وإناث - نذكر أنفسنا وإياكم بالاختبار الأعظم الذي يكون بين الإنسان وبين ربه يوم القيامة.

إن هذا الاختبار الذي يكون يوم القيامة ليس اختباراً للظواهر بل للبواطن، فالظواهر كل أحد يمكن أن يحسنها أحسن شيء، كما قال الله تعالى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4] أي: إن منظرهم حسن بهي يظن الإنسان أنهم من أهل التقى {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] فهم خطباء فصحاء، لكن لا خير فيهم {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] لا تستقيم بنفسها بل على جدار.

أيها الإخوة: الاختبار يوم القيامة على البواطن، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:8-9] أي: البواطن.

(تبلى) أي: تختبر وينظر ما فيها ولا عبرة بالظواهر.

{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] إن المشركين ينكرون أن يكونوا مشركين ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] لكن تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون.

أخي المسلم: يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9-10] أعمال الجوارح كل يستطيع أن يحسنها أحسن شيء، لكن أعمال القلوب صعبة، ولهذا قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص.

الإخلاص الذي نظن أننا مخلصون في أعمالنا، ومع ذلك السلف كانوا يجاهدون أنفسهم على الإخلاص.

فتش قلبك -يا أخي- هل فيك رياء؟ هل فيك كراهة للحق؟ هل فيك بغضاء للمؤمنين؟ هل فيك حقد على المؤمنين؟ فإن غسيل القلب كل يوم أهم من غسيل الثياب كل يوم، اغسل قلبك وطهره، يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41] فطهر قلبك.

اللهم طهر قلوبنا يا رب العالمين، الله طهرها من الرياء، اللهم طهرها من البغضاء على المسلمين ومن الحقد عليهم يا رب العالمين، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت له الحسنى وزيادة.

أيها الإخوة: بعد هذا الاختبار -أعني: اختبار يوم القيامة- إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:14-16] .

أخي المسلم: فكر في ذلك اليوم، لا درهم ولا دينار، ولا متاع ولا ثياب، ولا حميم ولا صديق ولا قريب {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] .

يا أخي المسلم: هل هذا اليوم قريب أم بعيد؟ إنه قريب، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] وقال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] .

إننا نتطلع إلى آخر العام ونقول: بقي اثنا عشر شهراً، وإذا به في لحظة يصل إلينا، كذلك عمر الإنسان يقول: متى الموت؟ ويؤمل، وإذا بحبل الأمل قد انصرم، ثم بعد النقلة من الدنيا إلى الآخرة ليس هناك عمل، انتهى وقت العمل، ما بقي إلا الجزاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية) أي: شيء يضعه في حياته يجري ثوابه؛ كبناء المساجد، وبناء الدور لطلبة العلم، وطباعة الكتب للانتفاع بها، وإصلاح الطرق، وما أشبه ذلك مما يدوم نفعه (أو علم ينتفع به) وهذا أعظم، العلم الذي ينتفع به أفضل الثلاثة؛ لأن العلم الذي ينتفع به يبقى به ذكرك مئات السنين (أو ولد صالح يدعو له) الولد الصالح يفنى عن قريب أو بعيد، لكن العلم النافع الذي ينتفع به يبقى ما شاء الله، الآن نحن ننتفع بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهل ننتفع بأموال الأغنياء الذين أنفقوا كثيراً منها في سبيل الله؟ لا.

لكن علم أبي هريرة بين أيدينا يقرأ صباحاً ومساءً في المساجد والمدارس.

الإمام أحمد له مئات السنين ومع ذلك ننتفع بعلمه الآن، شيخ الإسلام ابن تيمية له مئات السنين وننتفع بعلمه الآن، وهل يحصل على أجر من انتفاعنا بعلمه؟ نعم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به) فهو يحصل على أجر.

أيها الأخ: حاسب نفسك، واستعد للاختبار الأعظم.

اللهم ثبت أقدامنا يا رب العالمين، ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنك على كل شيء قدير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015