القسم الثالث: الصبر على أقدار الله وأقدار الله عز وجل هي ما يقدرها على العباد، وهي دائرة بين أمرين: بين الإحسان والعدل، كل ما يقدره الله على العبد من مصائب دائر بين أمرين: إما إحسان وإما عدل الإحسان: أن يقدر الله مصيبة على العبد ولا يعلم لها سبباً، هذه إحسان، وأما التي يعلم أن لها سبباً فهذا عدلٌ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] .
وما منا أحد إلا يصاب، والمصيبة مصيبة الدين, ولهذا نقول في دعاء القنوت: اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
الدنيا مهما كانت مصيبتها فهي هينة، غاية ما فيها الموت، والموت انتقال من أدنى إلى أعلى بالنسبة للمتقين، قال الله عز وجل: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى} [النساء:77] مصيبة الدنيا سهلة بالنسبة لمصيبة الدين، مصيبة الدين -والله- أعظم وأشد على العاقل، أما الدنيا فكما قلت لكم أولاً: الحال لا تدوم وكما قيل: دوام الحال من المحال.
والثاني: أنها أنهى ما تكون أن توصل إلى الموت الذي لا بد منه.
والصبر على أقدار الله: ألا يتسخط الإنسان بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه ألا يتسخط بقلبه بأن يسخط على الله عز وجل ويقول: كيف ابتلاني ولم يبتلِ فلاناً؟ يا أخي! من أنت؟ ألست عبداً لله؟! إذا كنت كذلك فالسيد يفعل بعبده ما شاء، ثم اعلم أنك لا تصاب بمصيبة وإن قلَّت إلا كُفَّر بها عنك سيئات أو رُفعت بها درجات، حتى جاء في الحديث: (إن الرجل ليطلب المفتاح من جيبه -يفتح الدار- ولا تقع عليه يده أول مرة يكتب له به أجر) لأنه يفزع، ويقول: لعله ضاع، أين وضعته؟ هذا الفزع يكتب له به أجر، إلى هذا الحد!! حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الشوكة يشاكها يثاب عليها) .
أنت مأجور، فكيف تتسخط من قضاء الله وقدره والخير لك؟! يقال: إن رابعة العدوية وهي من جملة العابدات أصيبت بمصيبة فقطعت أصبعها فلم تتأثر، فقيل لها في ذلك، قالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
ما شاء الله! أما التسخط باللسان: كأن يشكو الله عز وجل إلى الخلق، أو يقول: واويلاه! واثبوراه! وما أشبه ذلك.
وأما التسخط بالجوارح: فشق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك، ويوجد أناس يفعلون هذا، وأعظمه وأقبحه وأشده: الانتحار والعياذ بالله! يوجد أناس إذا أصيبوا بالمصائب التي يعجزون عنها ذهبوا يقتلون أنفسهم، ولقد حكى لنا نبينا صلى الله عليه وسلم قصة رجل جُرح فلم يصبر، ففعل ما لا يجوز فعله، فأوجب الله له النار.
والذي ينتحر تخلصاً من هذه المصيبة لن يتخلص، هو يظن أنه إذا مات استراح وليس كذلك، بل إذا مات فإنه معذب في نار جهنم بما قتل به نفسه خالداً مخلداً فيها أبداً.
ولهذا ننعى إخواننا الذين يذهبون إلى بلاد فلسطين المحتلة ويفجرون أنفسهم بين جمع اليهود، ويظنون بذلك أنهم يتقربون إلى الله، ولكن هذا لا يزيدهم إلا بعداً؛ لأنهم يقتلون أنفسهم والعياذ بالله! وقتل النفس من كبائر الذنوب، يُعذب في النار بما قتل به نفسه.
ولكننا لا نقول لهؤلاء: إنهم من هذا الصنف؛ لأنهم مجتهدون، يظنون أن هذا خير، والمتأول نرجو الله له العفو، لكن هذا العمل محرم شرعاً وليس من الجهاد في سبيل الله، وهو أيضاً خلاف المعقول فإذا قدرنا أنه قتل نفسه كم يقتل من اليهود؟ أكبر شيء اجعله يقتل خمسين أو مائة، فتأخذ اليهود بالثأر وتقتل مئات، وتزداد تعصباً لما ترى من استحلال البلاد، لكن أكثر الناس لا ينظر إلى العواقب ولا ينظر إلى الأمور العميقة.
المهم يا إخواني: أن الصبر على أقدار الله مواضعه ثلاثة، وهي: القلب، واللسان، والجوارح، هذه أنواع الصبر، فقول الله عز وجل هنا: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75] أي: بصبرهم، والصبر كما سمعتم ثلاثة أنواع.
واعلم أن مما يسليك في المصائب أن تنظر إلى من حولك، هل من حولك قد أصيبوا أم لا؟ إنك لن ترى إلا مصاباً مثلك، أو أعلى منك، أو دونك، لكن لا يخلو أحد من مصيبة، إلا من قصر عمره فهلك قبل أن تناله المصائب، هذا إن قدر وجوده.
فسلِّ نفسك بأقرانك وأصحابك، وقد كانت الخنساء ترثي أخاها صخراً وتقول:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي