وهناك صنف من الناس يسيرون في الأرض يذهبون إلى مكة وإلى المدينة يتمتعون بعمرة وزيارة، والعمرة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما) فتكون العمرة كفارة لما بين العمرتين من صغائر الذنوب، وزيارة المسجد النبوي قربة إلى الله عز وجل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) وليس لهذه الزيارة أو العمرة حد محدود، فيمكن أن تبقى أسبوعاً أو شهراً أو أكثر من ذلك حسب ما يتيسر لك، وحسب ما يناسبك وأهلك، وتزداد بذلك ثقافة ومعرفة لأحوال الناس، لا سيما وأن الناس الذين يفدون إلى مكة والمدينة من جهات شتى من العالم الإسلامي، فيحصل لك جلوس إليهم، واحتكاك بهم، ودراسةٌ لأحوالهم، وإرشادٌ لهم لما هم عنه غافلون أو به جاهلون.
مكة -شرفها الله- فيها المسجد الحرام، وهل فيها أمكنة أخرى تزار في العمرة أو لا؟ العمرة ليس فيها شيء إلا المسجد الحرام، تطوف وتسعى وتقصر وانتهت العبادة ليس هناك عبادة سوى هذا، الصلوات معروفة، ولكن ليس هناك أماكن يسن للإنسان أن يقصدها.
وبعض الناس يتعمد أن يذهب إلى غار حراء يظن أن هذا من السنة وليس كذلك، غار حراء غار كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينبأ، ونزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، ولكن لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بعد ذلك ولا كان الصحابة يقصدونه، وهناك غار آخر يقصده بعض والناس يظن أنه قربة، وهو غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة وإتيانه ليس بسنة ولا قربة إلى الله عز وجل، لكن لو أن الإنسان صعد على جبل حراء أو على جبل ثور من أجل أن يطلع فقط دون أن يتقرب إلى الله بهذا الصعود، فهل ينكر عليه؟
صلى الله عليه وسلم لا ينكر عليه، ينكر على الإنسان الذي يذهب يتعبد لله ويتقرب إلى الله بذلك.
وفي المدينة النبوية اقصد بذهابك إليها الصلاة في المسجد النبوي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة) وأول ما تقصد المسجد تصلي فيه وليس له حد محدود، صلِّ فيه فرضاً واحداً أو اثنين أو ثلاثة، يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر، ليس فيه خمس صلوات كما يقول بعض العوام، ولا فيه أربعين صلاة كما يقول آخرون، بل صلِّ ما شئت.
ثم زيارة قبر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، هذا القبر كان هو مسكنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له زوجات مات عن تسع منهن، وكل واحدة لها بيت، وهذا الذي هو فيه بيت عائشة رضي الله عنها، ولما مرض النبي صلى الله عليه وسلم كان من عدله أن يذهب إلى كل امرأة في يومها وهو مريض، ويقول: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) فهم زوجاته رضي الله عنهن أنه يريد يوم عائشة، فأذنَّ له أن يمرَّض في بيت عائشة، فبقي عند عائشة مريضاً وآتاه الموت يوم الإثنين، اللهم صل وسلم عليه، وصادف ذلك اليوم يوم عائشة، ومات وهو في حجرها عليه الصلاة والسلام، وآخر ما طعم من الدنيا ريقها؛ لأن أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر دخل ومعه سواك والنبي صلى الله عليه وسلم يحتضر، فجعل ينظر إليه، فعرفت عائشة أنه يريده فقالت: آخذه لك؟ فأشار أن نعم، فأخذته وقضمته بأسنانها، أي: قطعت الألياف التي كان عبد الرحمن يتسوك بها، ثم قضمته وعلكته وطيبته وصار من أحسن ما يكون، ثم أعطته النبي صلى الله عليه وسلم فاستاك به بيده الكريمة، قالت: (فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استن استناناً -يعني: استاك استياكاً- أحسن منه) فصار آخر ما طعم من الدنيا ريقها رضي الله عنها.
المهم أنه مات في هذا المكان، والحمد لله ما زال فيه منذ دفن إلى اليوم، والأرض لا تأكل منه شيئاً، الأنبياء كلهم لا تأكلهم الأرض، فقد حرم الله جل وعلا على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء.
وإذا انتهيت من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان منه، وإن كان في الروضة وهي ما بين بيته ومنبره فهو أحسن، إذا انتهيت فاذهب إلى القبور الثلاثة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر، وسلم عليهم، ابدأ أولاً بالرسول صلى الله عليه وسلم وسلم عليه، قف أمامه وقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذه أحسن صيغة تسلم بها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ودع عنك ما يذكره بعضهم في بعض الكتيبات الصغار، وسلم عليه بما علمه أمته.
ثم اخط خطوة عن يمينك لتكون تجاه أبي بكر رضي الله عنه، وسلم عليه وقل له: السلام عليك يا خليفة رسول الله، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمدٍ خيرا -ثلاث كلمات- ثم تجاوز قليلاً خطوة واحدة عن يمينك لتقف تجاه عمر رضي الله عنه، وسلم عليه وقل: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمدٍ خيراً.
وهناك مزار ثالث: وهو البقيع، مقبرة أهل المدينة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) ، فتأتي وتسلم على المقبرة أول ما تدخل على الجميع بالسلام المعروف: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) .
ثم اعمد إلى قبر الخليفة الثالث عثمان وهو معروف، سلم عليه، قف أمامه وقل: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، اللهم ارض عنه واجزه عن أمة محمدٍ خيراً.
ثم انصرف ولا تدع في المقبرة، فالمقبرة ليست مكان دعاء، وأهل القبور لا يُدعون، أهل القبور يدعى لهم ولا يُدعون، فهم في حاجة.
هذه ثلاثة مزارات.
الرابع: مسجد قباء، تطهر في بيتك واخرج إليه وصل فيه ما شاء الله، فإن من تطهر ببيته وخرج إلى قباء وصلى فيه كان كمن أدى عمرة، وصلِّ فيه ما شئت ثم انصرف، قال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:107] أربعة أغراض لمسجد الضرار، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] صل في قباء ركعتين أو ما شئت، ثم انصرف.
هذا المزار الرابع.
الخامس: شهداء أحد، والمكان معروف ومقبرتهم معروفة، سلم عليهم كما تسلم على سائر المقابر، وإن شئت فخصص منهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي له هذا اللقب العظيم: أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عن حمزة، وقد استشهد حمزة في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة.
هذه خمسة مزارات في المدينة وما سواها فلا أصل له، وليس هناك مسجد قبلتين ولا مسجد غمامة ولا شيء، لكن تعرف أن بعض الناس يستغل الفرصة لأكل المال بالباطل، فيقول للناس الذين لا يعرفون: هذا مزار كذا، وهذه سبعة مساجد، وهذا مسجد غمامة، وهذا مسجد القبلتين وما أشبه ذلك، فهذا استغلال وأكل أموال الناس بالباطل، حتى إني رأيت في شرقي الطائف حصاةً حجراً يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتكأ بمرفقه على هذه الحصاة، وهي في سفح جبل، والرسول عليه الصلاة والسلام ما جاء إلى الطائف من هذه الناحية، لكن الناس يريدون أن يلعبوا على الجهال فيسلبوا أموالهم.
انتهينا الآن من بلدين شريفين عظيمين يسافر إليهما بعض الناس في الإجازة، ومن الناس من يسافر لزيارة قريب له في بلاد أخرى، يسافر يزورهم ويصلهم ويستأنس بهم مدة يقدرها الله عز وجل، وهذا أيضاً سفرٌ مبرور وصاحبه مأجور، لأنه سفر لصلة الرحم، وهو مشروع، ويثاب صاحبه على هذا السفر، ويحصل لك أن تشاهد أقاربك وتحبهم ويحبوك وفيه خير كثير.