وأحكام الحج تخفى على كثير من الناس حتى على بعض طلبة العلم؛ لأن الحج ليس كالصلاة يتكرر كل يوم ويعرف، أو الصيام الذي يتكرر كل سنة ويعرف، لكنه في العمر مرة واحدة؛ لذلك يتأكد على الإنسان أن يتعلم أحكام الحج قبل أن يحج.
فلنبدأ الآن بشرح أحكام الحج وكأننا سافرنا من بلادنا إلى مكة: ينبغي للإنسان عند السفر أن يتأهب للسفر، وذلك بأن يوفر معه النفقة -الدراهم- والطعام والشراب والفرش في أيام الشتاء، لأنه ربما يحتاجه هو في أمر لم يكن طرأ على باله، وربما يحتاجه أحد من رفقته فيحسن إليه بالصدقة، أو الهدية، أو القرض، فينبغي لمن أوسع الله عليه أن يتأهب بأكثر مما يتصور أنه يحتاجه حتى ينفع غيره.
ثم ليحافظ على الصلوات بواجباتها وشروطها، يتطهر بالماء إذا أمكن فإن لم يمكن فبالتيمم، ويؤديها في وقتها، ويصليها قصراً من حين أن يخرج من بلده إلى أن يرجع إليه ولو طالت المدة، اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي ركعتين منذ خرج من المدينة حتى رجع إليها) وقال لما سئل: (كم أقام في مكة؟ قال: عشرة) يعني: عشرة أيام.
أما الجمع فالجمع إن كان سائراً -يعني: يمشي- فالأفضل أن يجمع إما جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر له، وإن كان نازلاً فالأفضل ألا يجمع وإن جمع فلا بأس؛ لأنه مسافر، لكن إذا كان في مكة أو غيرها من البلاد مقيماً فإنه يلزمه أن يصلي مع الجماعة، فإن فاتته صلى ركعتين.
فإذا وصل إلى الميقات اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد على رأسه ولحيته، ثم لبس ثياب الإحرام إزاراً ورداءً، والأفضل أن يكونا أبيضين نظيفين، ثم يلبي، والمرأة ليس لها لباس مخصوص في الإحرام، تلبس ما شاءت، إلا أنها لا تلبس ثياباً يعتبر زينة؛ لأن الناس سوف يشاهدونها، بل تلبس ثياباً بذلة، تلبس العباءة، وتلبس الثياب التي لا تلفت النظر.
ثم يقول -ونحن الآن نريد أن نجعل نسكنا تمتعاً- يقول: لبيك عمرة، ولا يحتاج أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج؛ لأنه قد نوى بقلبه أنه سيحج: لبيك عمرة، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شرك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويرفع الرجل بها صوته، وليعلم أنه لا يسمعه شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة بهذه التلبية، ومضمون التلبية: إجابة الله عز وجل؛ لأن لبيك بمعنى: أجبتك، قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] يعني: أعلمهم به {يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] أي: على أرجلهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي: ويأتونك ركباناً {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي: على كل ناقة ضامر {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] الله أكبر! الآن لا يوجد ناقة (ضامر) وإنما طيارة أو سيارة، لكن كلها سواء.
وليستمر في تلبيته إلى أن يشرع في طواف العمرة فيدخل المسجد الحرام ويقدم رجله اليمنى عند الدخول ويقول كما يقول إذا دخل غيره من المساجد، وليقصد الحجر الأسود يستلمه ويقبله إن تيسر فإن لم يتيسر أشار إليه، ويقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك, واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ويجعل البيت عن يساره، ويقول في طوافه ما شاء من ذكر ودعاء وقراءة قرآن، وفيما بين الركن اليماني والحجر الأسود يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
في هذا الطواف يضطبع الرجل بردائه في كل الأشواط السبعة، ويرمل في الأشواط الثلاثة فقط، ويمشي في الباقي.
والرمل: هو إسراع المشي، وهذا إذا تيسر أما إذا لم يتيسر الرمل لكون الزحام شديداً فالأمر واسع -ولله الحمد- فإذا أتم سبعة أشواط صلى ركعتين خلف المقام إن تيسر، وإن لم يتيسر ففي أي مكان من المسجد، يقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويخفف هاتين الركعتين، وينصرف بعد السلام مباشرة بدون دعاء، فيتجه إلى الصفا، فإذا قرب من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به.
فيرقى على الصفا ويتجه إلى القبلة، ويرفع يديه داعياً وذاكراً فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد هذا الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة، ثم ينزل متجهاً إلى المروة؛ يمشي مشياً معتاداً حتى إذا وصل إلى العمود الأخضر سعى -يعني: ركض ركضاً شديداً- فإن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسعى حتى إن إزاره ليدور به من شدة السعي.
وإذا كان المسعى زحاماً فالأمر واسع -والحمد لله- يمشي حسب القدرة، وإذا كان معه نساء يخاف عليهن لو سعى فيمشي؛ لأن المرأة لا تسعى.
ثم إذا تجاوز العلم الأخضر الثاني مشى على عادته حتى يصل إلى المروة، إذا دنا من المروة فلا يقول شيئاً، العامة إذا دنوا من المروة قالوا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] وهذا غلط، لا يقول شيئاً، بل يبقى في ذكره الذي كان يذكر الله به حتى يصعد على المروة ويتجه إلى القبلة ويرفع يديه داعياً وذاكراً بما فعل على الصفا، ويسعى سبعة أشواط.
كيف يسعى سبعة أشواط؟ الأشواط هنا -في السعي- ليست كأشواط الطواف، أشواط الطواف من الحجر إلى الحجر، وأشواط السعي من الصفا إلى المروة هذا واحد، ومن المروة إلى الصفا هذا ثاني.
يكمل سبعة أشواط وحينئذٍ نعرف أنه يبتدئ بـ الصفا وينتهي بـ المروة، فإذا رأيت أنك ختمت السعي بـ الصفا فاعلم أنك مخطئ، إما أنك زدت أو نقصت.
إذا أتم السعي بقي عليه الآن الحلق أو التقصير، فأيهما أفضل؟ الأفضل هنا التقصير لوجهين: الوجه الأول: أنه الذي أمر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه حين قدم في اليوم الرابع وأمرهم أن يقصروا، أمر من لم يكن معه هدي أن يحل ويقصر.
الوجه الثاني: أنه لو حلق وقد بقي مدة يسيرة للحج لم يبق للحج شعر، فنقول: وفر الشعر للحج واقتصر على التقصير، فإن قال قائل: هل التقصير يعم جميع الرأس أو جوانب الرأس؟
صلى الله عليه وسلم إنه يعم جميع الرأس، المهم أنه يبقى الرأس وقد تبين وظهر أنه مقصر لا أنه غير مقصر، وبذلك يحل التحلل كله.
بذلك -أي: بالطواف والسعي والتقصير- يحل الحل كله، حتى لو كان أهله معه جاز له أن يباشر أهله، انتهت العمرة، ثم يحرم بالحج في اليوم الثامن من مكانه الذي هو نازل فيه، إن كان نازلاً في مكة فمن مكة، أو في منى فمن منى، أو في أي مكان من مكانه، يحرم بالحج فيغتسل كما سبق في العمرة ويتطيب ويلبس ثياب الإحرام ويقول: لبيك حجاً ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
هذا يكون ضحى اليوم الثامن، ويذهب إلى منى فينزل بها، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، كل صلاة في وقتها مقصورة، أي: الظهر والعصر والعشاء تكون على ركعتين، فإذا طلعت الشمس في اليوم التاسع سار إلى عرفة، فينزل بـ نمرة إن تيسر وإن لم يتيسر ذهب رأساً إلى عرفة ونزل في مكانه، فإذا زالت الشمس صلى الظهر.
وينبغي لإمام الحجيج أن يخطب فيهم خطبة قبل أذان الظهر، يقرر فيها أصول الإسلام وحقوق الإسلام، ويبين أحكام النسك، ثم يؤذن لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم قصراً.
لكن لو صادفت الحجة يوم الجمعة يصلي الجمعة أو لا؟ لا يصلي الجمعة، السفر ما فيه جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادف يوم عرفة في حجة الوداع يوم الجمعة ولم يصل الجمعة، صلى الظهر والعصر.
ثم إذا فرغ من صلاة الظهر والعصر يتفرغ للدعاء والذكر، ويكثر الابتهال إلى الله عز وجل في آخر النهار، فإن الله تعالى يباهي الملائكة بأهل الموقف، فإذا غربت الشمس سار من عرفة إلى مزدلفة ملبياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ويؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة فينزل بها، ويصلي المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ويبيت في مزدلفة إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر أذن وصلى الركعتين الراتبة ثم صلى الفجر، ثم جلس يدعو الله سبحانه وتعالى بما أحب إلى أن يسفر جداً.
وليعلم أن عرفة كلها موقف وأن مزدلفة كلها موقف، ولكن ليتحرى أشد التحري في حدود عرفة؛ لأن بعض الناس يقصُر عن عرفة وينزل قبل أن يصل إلى حدودها، ويبقى في مكانه حتى تغيب الشمس ثم ينصرف إلى مزدلفة، وهذا لا حج له، بل رجع بدون حج؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحج عرفة) .
كذلك مزدلفة كلها موقف، لا يلزم أن تذهب إلى المشعر الحرام، بل أي مكان وقفت فيه أجزأك.
ثم تنصرف من مزدلفة إذا أسفر جداً إلى منى، وبعد الانصراف من مزدلفة إلى منى ستفعل ما يأتي: أ