ثم إنَّ جمهورَ الأمةِ على تقديمِ صحيحِ البخاريّ على مسلمٍ؛ فَقَدْ جَزَمَ الراوونَ بعذُوبةِ موارِدِهِ، وقَطَعَ الشارِحُونَ بصحَّةِ مطالبِهِ ومَقَاصِدِه، فكانَ كتابُه أصحَّ كتابٍ جَمَعَ فيه الوحيَ بعدَ القرآن فَأَوعى، وشادَ مَبَانيه فأجادَ فيه صُنْعا، فعَمَّ فضلُه الأمصارَ على توالي الأَعْصار، وَنَعتَهُ أعلامُ الدِّينِ بأنه بَحْرٌ لا يُدْرَكُ له قَرار.
فلله درُّه مِنْ تأليف، ويا لَه مِنْ تصنيف، تَهفُو له قلوبُ المقتفينَ إذا تُليت أخبارُه وتخشع، فالمؤلَّف بَحْر، والمؤلِّف حَبْر، وللقارئ رِبْح.
فمَنْ ظَفِرِ بهذا الصَّحيح سَجَدَ لله تعالى شُكْرًا على إيجاد مثلِ هذا الكتابِ لهذا الإمام؛ اعترافًا بفَضْلِهِ على أمَّةِ الإسلام.
ومِنْ هُنا كَثُرت العنايةُ بهذا الكتاب العظيم، وتنوَّعت الشروحُ والتعليقاتُ عليه بَدْءًا من المئةِ الرَّابعة للهجرة حتى عَصْرِنا هذا، إذ ناهزتِ الكتبُ التي دارتْ حولَ أحاديثه الخمسَ مئةِ كتابٍ ما بين شارحٍ لمفرداتِه وغريِبه، ومُعْرِبًا لِمَا اعْتَاصَ من كلماته، وواصلًا لتعليقاتِه، ومُتَرْجِمًا لرجالاته، وموضحًا لمُبهماته، ومُبيِّنًا لتراجمه واستنباطاته إلى غيرِ ذلك من أنواع العناية به.
وقد امتازَ كثيرٌ من الشُّروح بالفوائد والعوائد التي لا توجد في الشروح الأخرى، وقلَّ شرحٌ منها يخلو عَنْ فائدةٍ عزيزةٍ، أو تنبيهٍ مُهم، أو استنباطٍ مَليح، أو إرشادٍ بَليغ، إذ إنَّ هذا الكتاب -كما يقول المحقِّقون- لم يَسْتَصْبحْ أحدٌ سِراجَه، ولا استوضحَ سبيلَه ومنهاجَه، بل هو دُرَّةٌ لم تُثْقَب، ومُهْرَةٌ لم تُرْكَب.