ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشيطان وقيل: لأنه لو جاء الملك ثم لم يَحمِل القوةَ البشرية. وهذا فاسدٌ؛ لأن المَلَك لم يجئ بالوحي إلا في صورة البشر، وإنما رآه في صورته مرتين، ولم يكن فيها آتيًا بالوحي وأيضًا: ماذا تكسب القوة البشرية من الرؤيا حتى يقوى بعد ذلك على ملاقاة المَلَك؟
(ثم حُبِّب إليه الخَلاَء) بالمد مصدر خلا إذا انفرد، وهذا دأبُ السالك: إذا استأنسَ بالله استوحشَ من الخَلْق (بغار حراء) الغار والمغارة: الكهف والثقب في الجبل. وحراء: ممدودٌ يصرف ولا يصرف جبل بمكة على يسار الذاهب إلى منى، بينه وبين مكة ثلاثةُ أميال.
(فيتحنثُ فيه) الحِنْث: الإثم أي: تجنب الحِنْثَ الذي يحصُل من الاختلاط بالناس، مثلُه تجرَّح وتَأَلَّم (وهو التعبُّد) من قول عائشة، ويجوزُ أن يكون مندرجًا من الزهري (الليالي) ظرفٌ للتحنث دون التعبُّد، لأنه تفسير المتحنث. فلو قُيّد بالليالي لزم منه اختصاصُ التحنث بالليالي، وفساده لائحٌ. وإنما اكتفى بالليالي، لأنها غُرر الأيام، ودلَّ على إرادتهما معًا.
قوله: "قبل أن ينزع إلى أهله" (ذوات العدد) وفي رواية مسلم: "أولاتُ العدد" أي: ليالي قليلة، لأن العدّ يجري في القليل غالبًا، وقيل: ليالي كثيرة يعتدّ بها، وهذا أنسب بقوله: (قبل أن ينزع إلى أهله) لأن الشوق إلى الأهل إنما يكون بعد مدةٍ.
- واختلف العلماء في كيفية تعبُّده، قيل: كان بشرع نوح، وقيل: بشرع إبراهيم، وقيل: بشرعِ موسى وعيسى. والأظهر أنه كان يجتهدُ.
وأما الحُسْن والقُبح عقلًا فباطلٌ عند أهل الحق، فكيف يُحمل عليه، وكذا شرع نفسه بالرؤيا من وجوه:
الأول: أن الكلام ليس في تعبُّده بعد النبوة، بل بعد بلوغه مبلغ الرجال، والمسألة معروفة.
الثاني: أنه حالةَ الرؤيا لم يكن عالمًا بأنه وحيٌ، بل بعد مجيء المَلَك أيضًا لم يكن عالمًا، أخبره ورقةُ بن نوفل. وبعده أيضًا دلّت عليه الأحاديث في البخاري وغيره، ولمَ كان يذهب إلى الشواهق ليُلقي نفسَه لو كان عالمًا بالنبوة؟ ولو سُلّم أنه كان عالمًا لم يَجُزْ له العملُ ما لم يكن رسولًا بشرع محدّد، إلا أن ترى أن أنبياء بني إسرائيل كانوا بنبوتهم عالمين بشريعة موسى؟