. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قلت: يعارض ما ذكرتم حديث أبي أيوب الآتي بعدُ وهو قوله: وجدنا بالشام مراحيض بُنيت قِبل البيت، كنا ننحرفُ ونستغفر الله، فلم يعتد بالبناء ساترًا قلت: أبو أيوب لم ينقله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبلغه حديث ابن عمر وعائشة، وما يقال: إن أبا أيوب حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز، لا معنى له؛ فإن الغائط حقيقة في عُرف الشرع عن كل مكان تقضى فيه الحاجة. قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] فالصوابُ أنه أجراه على عمومه لعدم إطلاعه على المخصص كما ذكرنا من حديث ابن عمر وعائشة في البنيان، والاستدبار عن الإمام أحمد روايتان. وقوله: "شرقوا أو غربوا" خطابٌ لأهل المدينة، فإن القِبلة هناك في الجنوب. وأما من كانت قبلته في الشرق أو الغرب فالأمر بالعكس عنده.
فإن قلتَ: ترجم البخاري على عدم جواز استقبال القبلة إلا عند البناء ونحوه، وليس في حديث الباب ذكرُ شيءٍ من ذلك؟ قلتُ: هذا على دأبه من الاستدلال بما في دلالته خفاء اعتمادًا على ما سيروي من حديث ابن عمر. وما يقال: إن لفظ الغائط يدل على الصحراء، لأنه المكان المنخفض، وإنما يكون في الصحراء لا في البنيان، فلا يعول عليه، لأن الغائط مجاز عن قضاء الحاجة، فلا يُعتبر فيه المعنى الحقيقي. وقال الخطابي: إنما حَرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء، لأن الفضاء موضع الجنّ والإنس والملائكة، فالقاعدُ مستهدفٌ للأبصار بخلاف البنيان، فإن الأبنية ساترة ولأن القبلة إنما تستقبل في الدعاء وأمور الخير، فكره أن تستقبل أو تستدبر في الحدث. قلت: هذا الثاني يدلّ على الحرمة في البنيان ولا محيص إلا بأن البنيان ساترة، فلذلك اغتفر فيه ذلك.
قال بعض الشارحين: فإن قلت: شرّقوا بعد قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط ... " ما هذا الأسلوب؟ قلتُ: أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. هذا كلامه. وقد سها فيه، وذلك أن المخاطب في "شرقوا" ليس ذلك الأحد المذكور أولًا، لأنه عام على سبيل البدل. والحق أن "شرقوا" جواب سؤال مقدر، كأنهم قالوا: فكيف نفعل؟ قال: شرقوا أو غربوا. وهذا خاصٌ بأهل المدينة ومن على ذلك السمت.