مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التراجم، فلا يتعرض لأسباب نزولها، وبيانِ معانيها. فالوجه فيها ما ذكرناه. وتارةً يُورِدُها لبيان أحكامها وأسباب نزولها. فالجر فيها على ظاهره كقوله: باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، باب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
وقيل: لا يجوزُ العطف على بدء، لأنه يلزم أن يكون كلام الله مكيفًا وهو محالٌ. وهذا أيضًا من النمط الأول، لأن المراد من الكلام هنا: الكلامُ اللفظي الذي يستدل به على المعنى القديم القائم بذاته تعالى. وما يقال: الرفعُ على تقدير عدم الباب عطف الجملة، لأنها في محل الرفع لا يصحّ، لأن الجملة المبتدأة لا محل لها.
فإن قلتَ: لِمَ تَرَكَ العمل بالحديث: "كل أمر ذي بالٍ لم يُبدأ بحمد الله فهو أجذم" كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة مرفوعًا، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة لم يصح "بذكر الله"؟ قلتُ: لأن الحديث لم يكن ثابتًا عنده أو أشار إلى أن الابتداء بالبسملة كافٍ في العمل بالحديث؛ لاشتماله على لفظ الله الدالِّ على سائر الصفات التزامًا، وعلى الرحمن الرحيم مطابقةً، لأن الحمدَ وهو الوصفُ بالجميل على قصد التبجيل ليس منحصرًا في لفظ الحمد وما يشتق منه كما يتبادر إلى الأوهام. على أن المحققين على أن الكتابة لا تشترط في العمل بالحديث بل التلفظ كافٍ، بل الإخطارُ على القلب كافٍ. صَرَّح بذلك الماوَرْدِي وغيرُهُ.
{مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]) أي من بعد نوح. إنما خُصَّ بالذكر لأنه آدم الثاني، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: 77]، ولأنه أولُ نبي عُذّب قومُهُ؛ إيقاظًا لمشركي مكة.
وما يقال: لأنه أول مُشَرِّع مردود؛ لأن الناسَ لم يُتركوا سُدًى في زمنٍ، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فلا بدَّ وأن يكون قبله أنبياء، وقد قال الله تعالى في شأن إدريس: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41] وهو قبل نوح عند المحققين.