قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: «وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ، وَكَرِهَ أَهْلُ العِلْمِ الإِسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أن فرضَ الوضوء مرةٌ مرةٌ) بالرفع خبر أنّ والمعنى: أن الفرضَ في كل عضو مرة واحدة، ولهذا المعنى أعاد لفظ مرة. ويُروى بالنصب. قيل: على لغة من ينصب بالحروف المشبهة الاسم والخبر كقول الشاعر:
إن حُرَّاسَنا أسدًا
وأما على المصدر أي: فرض الوضوء الغَسْلُ مرةً واحدة. وقيل: أو نصب على الظرفية أي: في الزمان المسمّى بالمرة، وهو لغوٌ من الكلام، لأن المرةَ من صفات الفعل الذي من شأنه المرةُ والتعددُ، وليس في الزمان ما يمكن أن يكون موصوفًا بالمرة والتعدد.
(وتوضأ مرتين مرتين وثلاثًا) أي: وثلاثًا ثلاثًا، وإنما حذف الثاني منه، لدلالة تكرار مرتين عليه، لأنه قرينه. وأما حمل مرة ومرتين ثانيًا على التأكيد، منافٍ لغرض البخاري؛ إذ لا يخفى أن مراده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَين مراتب الوضوء بغسل كل عضو مرةً ومرتين وثلاثًا، وإذا حُمل على التأكيد لم يبق للكلام على ذلك دلالة بوجه، وكذا حمله على أن المراد مرة في هذا الوضوء، ومرة في ذلك الوضوء باعتبار الجزئيات لأنه بصدد بيان الآية، الآمرة بغسل الأعضاء هل تكفي مرة أو لا. فلو حمل على أن المعنى مرة في هذا الوضوء، ومرةً في ذلك الوضوء لم يكن تفسيرًا وبيانًا للآية.
(وكره أهلُ العلم الإسراف فيه) الإسرافُ التجاوزُ عن الحدّ المتعارف كمن غسل الأعضاء أربع مراتٍ. هذا هو الإسراف الذي كرهه العلماء، لأنه مخالف للشارع فيما شرعه على وجه الكمال، وليس بعد الكمال إلا النقصانُ، والتبذيرُ أخصُّ من الإسراف، لأنه في الإنفاق لا غير.
وقوله: (وأن يجاوزوا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-) كالتفسير للإسراف. وقيل: الإسرافُ: صرفُ ما ينبغي إلى ما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي. وهذا لا يتناول الإسرافَ في الذنوب والقبائح.