ولقدْ شهدَ الله سبحانه وتعالى - وشهادتهُ أَجَلُّ شهادةٍ وأعْظمُهَا وأعْدَلُهَا وأصْدَقُهَا - لنفسِه بأنَّهُ استوى على العرشِ، وبأنَّهُ القاهرُ فوقَ عبادهِ، وبأنَّ ملائكتَهُ يخافونهُ منْ فوقهم، وأنَّ الملائكةَ تَعْرُجُ إليه بالأمْرِ، وتَنْزِلُ مِنْ عندهِ، وأنَّ العملَ الصالحَ يصْعَدُ إليهِ. وشَهِدَتْ له الجَهْمِيَّةُ بضدِّ ذلكَ، وقالوا: إنَّ الله منزَّهٌ عن العلوِّ والفوقيَّةِ. يظنُّونَ أنَّ الحقَّ معهم؛ ولكنَّ الحقَّ وراءَهم.
فسمُّوا علوَّ الله على خلقهِ، واستواءَهُ على عرشه: جهةً ومكانًا وقالوا: «منزهٌ عن الجهة والمكان» ومقصودهم بذلك: أنّهُ ليسَ فوق السموات ربٌّ؛ ولا على العرشِ إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَدُ، وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يُعرَج بهِ إليه. يفترون على الله الكذب: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116]. {وقد خاب من افترى} [طه: 61].
فشهادةُ الرَّبِّ تعالى (?): تكذِّبُ هؤلاءِ أشدَّ التَّكْذيبِ، وتتضمَّنُ أنَّ الذي شهدَ بهِ قدْ بَيَّنهُ وأوْضحهُ وأظهرهُ، حتَّى جعلهُ في أعلى مراتبِ الظُّهورِ والبيانِ، وأنَّه لو كانَ الحقُّ فيما يقولهُ المعطِّلةُ والجهميَّةُ - الذينَ يقولونَ: ليسَ فوقَ السَّمواتِ رَبٌّ يُعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ يُصَلَّى له ويُسْجَدُ - لمْ يَكُنِ العبادُ قد انتفعوا بما شهدَ بهِ سبحانه وتعالى؛ فإنَّ الحقَّ في نفسِ الأمْرِ - عندهم - لمْ يَشْهَدْ بهِ لنفسهِ، والذي شهدَ بهِ لنفسهِ، وأظْهرهُ وأوضحهُ: فليسَ بحقٍّ، ولا يجوزُ أنْ يُسْتفادَ منهُ الحقُّ واليقينُ.