والتصدية فهو سماع المشركين، ومن نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سماع شيء منه وأنه تواجد عليه فقد كذب. ولم يشرع الاجتماع على استماع الأبيات الملحنة واتخاذ ذلك دينًا، ولم يكونوا في القرون المفضلة يجتمعون على السماع المحدث، وأنكره من أدركه منهم كالشافعي وأحمد، ومن حضره من الشيوخ تركه وعابه. وممن رغَّب في هذا السماع ودعا إليه: ابن الراوندي والفارابي وابن سينا اتباعًا للفلاسفة. وذكر شيخ الإسلام ما في الغناء من الأضرار والمفاسد التي تجعل لصاحبه أحوالًا شيطانية، وانتقد تلك الآثار والأخبار التي ذكرها أبو عبد الرحمن السلمي وابن طاهر المقدسي وغيرهما في إباحة الغناء وآلات اللهو والمعازف، وذكر حكم الغناء في الشرع وحكمَ من حضر السماع من المشايخ، وقال: إن الكتاب والسنة وما عليه الصحابة هو المميز بين الحق والباطل من المنقولات والمعقولات والأذواق والخوارق.
ولشيخ الإسلام فصل كبير يتعلق بالسماع ضمن كتابه "الاستقامة" (1/ 216 - 421)، ناقش فيه ما أورده أبو القاسم القشيري في "الرسالة القشيرية" (ص 504 - 519) في باب السماع، وردَّ عليه فقرةً فقرةً، ولم يترك شبهةً من شبههم، ولا شيئًا مما يحتجون به من الآثار والأخبار، دون تعقيب وإيضاح واستدراك ونقد. وهذا الفصل أهمُّ ما كُتِب في مناقشة أهل السماع على الإطلاق، بأسلوب علمي رزين، وبأدلة قوية مقنعة. وقد اعتمد ابن القيم في القسم الثاني من هذا الكتاب على كلام شيخه في هذا الفصل، واستفاد منه كثيرًا، وزاد عليه زيادات كما سيأتي ذكرها فيما بعد.