تُوفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي سِنِينَ، وَأَوْصَى أَبَا طَالِبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي قَامَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ جَدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ لَزِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَقَّ لَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ سِنِينَ. فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَا فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ، وَكَانَ ذَا عِلْمٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ بِتِلْكَ الصَّوْمَعَةِ رَاهِبٌ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَبِهَا كِتَابٌ يَتَوَارَثُونَهُ. فَلَمَّا رَآهُمْ بَحِيرَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَأَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ غَمَامَةً تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الشَّجَرَةِ وَقَدْ هَصَرَتْ أَغْصَانُهَا حَتَّى اسْتَظَلَّ بِهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَدَعَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى بَحِيرَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ كَانَ يَجِدُهَا مِنْ صِفَتِهِ.
فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنَ الطَّعَامِ وَتَفَرَّقُوا، سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَنَوْمِهِ فَوَجَدَهَا بَحِيرَا مُوَافِقَةً لِمَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَحِيرَا لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ؟ قَالَ: ابْنِي. قَالَ: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا. قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ حُبْلَى بِهِ. قَالَ: صَدَقْتَ، ارْجِعْ بِهِ إِلَى بَلَدِكَ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ.