وَعَادُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، وَدَخَلَ الْحَسَنُ إِلَى أَبِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُوهُ شَتَمَهُ، وَبَالَغَ فِي ذَمِّهِ وَتَهْدِيدِهِ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ فَخَنَقَهُ لِوَقْتِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَرَمِ الشَّرِيفِ، وَأَحْضَرَ الْأَشْرَافَ، وَقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا لِي أَنْ أَكُونَ أَنَا أَمِيرُكُمْ. فَحَلَفُوا لَهُ ثُمَّ إِنَّهُ أَظْهَرَ تَابُوتًا وَدَفَنَهُ لِيَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُ مَاتَ، وَكَانَ قَدْ دَفَنَهُ سِرًّا.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْإِمَارَةُ بِمَكَّةَ لَهُ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ الَّذِي بِقَلْعَةِ الْيَنْبُعَ عَلَى لِسَانِ أَبِيهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ عَنْهُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَخُوهُ قَتَلَهُ أَيْضًا، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ، وَفَعَلَ بِأَمِيرِ الْحَاجِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَارْتَكَبَ عَظِيمًا: قَتَلَ أَبَاهُ وَعَمَّهُ وَأَخَاهُ فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، لَا جَرَمَ لَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نَزْعَ مُلْكَهُ، وَجَعَلَهُ طَرِيدًا شَرِيدًا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ.
وَقِيلَ إِنَّ قَتَادَةَ كَانَ يَقُولُ شِعْرًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ طُلِبَ لِيَحْضُرَ عِنْدَ أَمِيرِ الْحَاجِّ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ، فَامْتَنَعَ، فَعُوتِبَ مِنْ بَغْدَادَ، فَأَجَابَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مِنْهَا:
وَلِي كَفُّ ضِرْغَامٍ أَدُلُّ بِبَطْشِهَا ... وَأَشْرِي بِهَا بَيْنَ الْوَرَى وَأَبِيعُ
تَظَلُّ مُلُوكُ الْأَرْضِ تَلْثُمُ ظَهْرَهَا ... وَفِي وَسَطِهَا لِلْمُجِدِّينَ رَبِيعُ
أَأَجْعَلُهَا تَحْتَ الرَّحَا ثُمَّ أَبْتَغِي ... خَلَاصًا لَهَا؟ إِنِّي إِذًا لِرَقِيعُ
!
وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
يَضُوعُ، وَأَمَّا عِنْدُكُمْ فَيَضِيعُ
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعَادَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَشْرُوحًا مُفَصَّلًا.