وَتَتَبَّعَهُمْ فِي الشِّعَابِ وَالْكُهُوفِ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

فَكَانَ مَعَهُمْ مُقَدَّمَانِ مِنْ فُرْسَانِ الِاسْبِتَارِ، فَحُمِلَا إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ عَلَى صَفَدَ، فَأَحْضَرَهُمَا لِيَقْتُلَهُمَا، وَكَانَتْ عَادَتُهُ قَتْلَ الدَّاوِيَّةِ وَالِاسْبِتَارِيَّةِ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَشَجَاعَتِهِمْ، فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: مَا أَظُنُّ يَنَالُنَا سُوءٌ وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى طَلْعَتِكَ الْمُبَارَكَةِ وَوَجْهِكَ الصَّبِيحِ. وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرَ الْعَفْوِ، يَفْعَلُ الِاعْتِذَارُ وَالِاسْتِعْطَافُ فِيهِ، فَيَعْفُوُ وَيَصْفَحُ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُمَا لَمْ يَقْتُلْهُمَا، وَأَمَرَ بِهِمَا فَسُجِنَا.

وَلَمَّا فَتَحَ صَفَدَ سَارَ عَنْهَا إِلَى كَوْكَبَ وَنَازَلَهَا وَحَصَرَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ يَبْذُلُ لَهُمُ الْأَمَانَ إِنْ سَلَّمُوا، وَيَتَهَدَّدُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ إِنِ امْتَنَعُوا، فَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُ، وَأَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَجَدَّ فِي قِتَالِهِمْ، وَنَصَبَ عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَتَابَعَ رَمْيَ الْأَحْجَارِ إِلَيْهِمْ، وَزَحَفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.

وَكَانَتِ الْأَمْطَارُ كَثِيرَةً، لَا تَنْقَطِعُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْقِتَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، وَطَالَ مَقَامُهُمْ عَلَيْهَا.

وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ زَحَفُوا إِلَيْهَا دَفْعَاتٍ مُتَنَاوِبَةٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَوَصَلُوا إِلَى بَاشُورَةِ الْقَلْعَةِ، وَمَعَهُمُ النَّقَّابُونَ وَالرُّمَاةُ يَحْمُونَهُمْ بِالنُّشَّابِ عَنْ قَوْسِ الْيَدِ وَالْجُرُوخِ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ أَعْلَى السُّورِ، فَنَقَبُوا الْبَاشُورَةَ فَسَقَطَتْ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى السُّورِ الْأَعْلَى، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ ذَلِكَ أَذْعَنُوا بِالتَّسْلِيمِ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ مِنْهُمْ مُنْتَصَفَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى صُورَ، فَوَصَلُوا إِلَيْهَا.

وَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْفِرِنْجِ وَشُجْعَانِهِمْ كُلُّ صِنْدِيدٍ، فَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُمْ، وَحَمِيَتْ جَمْرَتُهُمْ، وَتَابَعُوا الرُّسُلَ إِلَى مَنْ بِالْأَنْدَلُسِ وَصَقَلِّيَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يَسْتَغِيثُونَ وَيَسْتَنْجِدُونَ، وَالْأَمْدَادُ كُلَّ قَلِيلٍ تَأْتِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِتَفْرِيطِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي إِطْلَاقِ كُلِّ مَنْ حَصَرَهُ، حَتَّى عَضَّ بَنَانَهُ نَدَمًا وَأَسَفًا حَيْثُ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ.

وَاجْتَمَعَ لِلْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ كَوْكَبَ وَصَفَدَ مِنْ حَدِّ أَيْلَةَ إِلَى أَقْصَى أَعْمَالِ بَيْرُوتَ، لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ غَيْرُ مَدِينَةِ صُورَ، وَجَمِيعُ أَعْمَالِ أَنْطَاكْيَةَ سِوَى الْقُصَيْرِ، وَلَمَّا مَلَكَ صَلَاحُ الدِّينِ صَفَدَ سَارَ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَعَيَّدَ فِيهِ عِيدَ الْأَضْحَى، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى عَكَّا، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى انْسَلَخَتِ السَّنَةُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015