أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ جَاوْلِي الْأَسَدِيُّ، مُقَدَّمُ الْأَسَدِيَّةِ وَكَبِيرُهُمْ، فَأَصَابَ صَدْرَهُ، فَوَجَدَ لِذَلِكَ أَلَمًا شَدِيدًا، وَأَخَذَ اللَّالُكَّةَ وَعَادَ عَنِ الْقِتَالِ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَقَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا أَهْلَ الْمَوْصِلِ بِحَمَاقَاتٍ مَا رَأَيْنَا بَعْدُ مِثْلَهَا، وَأَلْقَى الْلَّالُكَّةَ، وَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ يُقَاتِلُ عَلَيْهَا أَنَفَةً حَيْثُ ضُرِبَ بِهَذِهِ.
ثُمَّ إِنَّ صَلَاحَ الدِّينِ رَحَلَ مِنْ قُرْبِ الْبَلَدِ، وَنَزَلَ مُتَأَخِّرًا، خَوْفًا مِنَ الْبَيَاتِ، فَإِنَّهُ لِقُرْبِهِ كَانَ لَا يَأْمَنُ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَيْضًا أَنَّ مُجَاهِدَ الدِّينِ أَخْرَجَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي جَمَاعَةً مِنْ بَابِ السِّرِّ الَّذِي لِلْقَلْعَةِ، وَمَعَهُمُ الْمَشَاعِلُ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَخْرُجُ مِنَ الْبَابِ وَيَنْزِلُ إِلَى دِجْلَةَ، مِمَّا يَلِي عَيْنَ الْكِبْرِيتِ، وَيُطْفِئُ الْمِشْعَلَ، فَرَأَى الْعَسْكَرُ النَّاسَ يَخْرُجُونَ، فَلَمْ يَشُكُّوا فِي الْكَبْسَةِ، فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرَّحِيلِ وَالتَّأَخُّرِ لِيَتَعَذَّرَ الْبَيَاتُ عَلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ.
وَكَانَ صَدْرُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ، قَبْلَ نُزُولِهِ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَمَعَهُ بَشِيرُ الْخَادِمُ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، فِي الصُّلْحِ، فَأَقَامَا مَعَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ إِلَى عِزِّ الدِّينِ وَمُجَاهِدِ الدِّينِ فِي الصُّلْحِ، فَطَلَبَ عِزُّ الدِّينِ إِعَادَةَ الْبِلَادِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، فَأَجَابَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ إِلَيْهِ حَلَبُ، فَامْتَنَعَ عِزُّ الدِّينِ وَمُجَاهِدُ الدِّينِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَأَجَابَ إِلَى تَسْلِيمِ الْبِلَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكُوا إِنْجَادَ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُجِيبُوهُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ عِزُّ الدِّينِ: هُوَ أَخِي وَلَهُ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ وَلَا يَسَعُنِي نَكْثُهَا.
وَوَصَلَتْ أَيْضًا رُسُلُ قُزْلُ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ، وَرُسُلُ شَاهْ أَرْمَنُ صَاحِبُ خِلَاطَ، فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرٌ وَلَا تَمَّ صُلْحٌ، فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَوْصِلِ غَرَضًا، وَلَا يَحْصُلُ عَلَى غَيْرِ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ، وَأَنَّ مَنْ بِسِنْجَارَ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَوْصِلِيَّةِ يَقْطَعُونَ طَرِيقَ مَنْ يَقْصِدُونَهُ مِنْ عَسَاكِرِهِ وَأَصْحَابِهِ، سَارَ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَيْهَا.