الدِّينِ يَنْهَاهُ عَنِ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ لِلسُّلْطَانِ، فَلَا تَقْصِدْهَا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لِصَاحِبِكَ أَنَا أَصْلَحُ لِأَوْلَادِ أَخِي مِنْكَ، فَلِمَ تُدْخِلْ نَفْسَكَ بَيْنَنَا؟ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ إِصْلَاحِ بِلَادِهِمْ يَكُونُ الْحَدِيثُ مَعَكَ عَلَى بَابِ هَمَذَانَ، فَإِنَّكَ قَدْ مَلَكْتَ هَذِهِ الْمَمْلَكَةَ الْعَظِيمَةَ، وَأَهْمَلْتَ الثُّغُورَ حَتَّى غَلَبَ الْكَرَجُ عَلَيْهَا، وَقَدْ بُلِيتُ أَنَا، وَلِي مِثْلُ رُبُعِ بِلَادِكَ، بِالْفِرِنْجِ، وَهُمْ أَشْجَعُ الْعَالَمِ، فَأَخَذْتُ مُعْظَمَ بِلَادِهِمْ، وَأَسَرْتُ مُلُوكَهُمْ، وَلَا يَحِلُّ لِيَ السُّكُوتُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْقِيَامُ بِحِفْظِ مَا أَهْمَلْتَ وَإِزَالَةُ الظُّلْمِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَقَامَ نُورُ الدِّينِ عَلَى الْمَوْصِلِ، فَعَزَمَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى مُجَاهَرَةِ فَخْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَسِيحِ بِالْعِصْيَانِ، وَتَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَى نُورِ الدِّينِ، فَعَلِمَ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى نُورِ الدِّينِ فِي تَسْلِيمِ الْبَلَدِ إِلَيْهِ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُ بِيَدِ سَيْفِ الدِّينِ، وَيَطْلُبَ لِنَفْسِهِ الْأَمَانَ وَلِمَالِهِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَشَرَطَ أَنَّ فَخْرَ الدِّينِ يَأْخُذُهُ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَيُعْطِيهِ عِنْدَهُ إِقْطَاعًا يُرْضِيهِ، فَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ مِنْ بَابِ السِّرِّ ; لِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ عِصْيَانُ عَبْدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مِنْ أَحْصَنِ مَوْضِعٍ فِيهَا، وَلَمَّا مَلَكَهَا أَطْلَقَ مَا بِهَا مِنَ الْمُكُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْمَظَالِمِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِنَصِيبِينَ وَسَنَجَارَ وَالْخَابُورِ، وَهَكَذَا كَانَ جَمِيعُ بِلَادِهِ مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ.
وَوَصَلَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ يُحَاصِرُهَا، خِلْعَةٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَبِسَهَا، وَلَمَّا مَلَكَ الْمَوْصِلَ خَلَعَهَا عَلَى سَيْفِ الدِّينِ ابْنِ أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ وَهُوَ بِالْمَوْصِلِ بِعِمَارَةِ الْجَامِعِ النُّورِيِّ، وَرَكِبَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَرَآهُ، وَصَعِدَ مَنَارَةَ مَسْجِدِ أَبِي حَاضِرٍ فَأَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي شَاهَدَهَا مَا يُجَاوِرُهَا مِنَ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ أَصْحَابِهِ. وَوَلَّى الشَّيْخَ عُمَرَ الْمُلَّا عِمَارَتَهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْأَخْيَارِ، فَاشْتَرَى الْأَمْلَاكَ مِنْ أَصْحَابِهَا بِأَوْفَرِ الْأَثْمَانِ، وَعَمَّرَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَفَرَغَ مِنْ عِمَارَتِهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَعَادَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَنَابَ فِي قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ خَصِيًّا كَانَ لَهُ اسْمُهُ كَمُشْتَكِينُ، وَلَقَبُهُ سَعْدُ الدِّينِ، وَأَمَرَ سَيْفَ الدِّينِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ عَنْهُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْأُمُورِ وَلَا بِكَثِيرٍ،