وَلَمَّا قُتِلَ مَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ بُورِي، وَجَلَسَ فِي مَنْصِبِهِ، وَحَلَفَ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَاسْتَقَرَّ فِي الْمُلْكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ حَصْرِ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَرَ أَتَابَكْ زَنْكِي دِمَشْقَ، وَكَانَ نُزُولُهُ عَلَيْهَا أَوَّلَ جُمَادَى الْأُولَى، وَسَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ إِرْسَالِ شَمْسِ الْمُلُوكِ صَاحِبَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتِدْعَائِهِ لِيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ كُتُبُهُ، وَرُسُلُهُ بِذَلِكَ سَارَ إِلَيْهَا، فَقُتِلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ قَبْلَ وُصُولِهِ، وَلَمَّا عَبَرَ الْفُرَاتَ أَرْسَلَ رُسُلًا فِي تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ التَّسْلِيمِ، فَرَأَوُا الْأَمْرَ قَدْ فَاتَ إِلَّا أَنَّهُمْ أُكْرِمُوا وَأُحْسِنَ إِلَيْهِمْ، وَأُعِيدُوا بِأَجْمَلِ جَوَابٍ، وَعَرَفَ زَنْكِي قَتْلَ شَمْسِ الْمُلُوكِ، وَأَنَّ الْقَوَاعِدَ عِنْدَهُمْ مُسْتَقِرَّةٌ لِشِهَابِ الدِّينِ، وَالْكَلِمَةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى طَاعَتِهِ، فَلَمْ يَحْفَلْ زَنْكِي بِهَذَا الْجَوَابِ، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَازَلَهَا، وَأَجْفَلَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى دِمَشْقَ، وَاجْتَمَعُوا فِيهَا عَلَى مُحَارَبَتِهِ.
وَنَزَلَ أَوَّلًا شَمَالَيْهَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَيْدَانِ الْحِصَارِ، وَزَحَفَ وَقَاتَلَ، فَرَأَى قُوَّةً ظَاهِرَةً، وَشُجَاعَةً عَظِيمَةً، وَاتِّفَاقًا تَامًّا عَلَى مُحَارَبَتِهِ، وَقَامَ مُعِينُ الدِّينِ أُنُزُ مَمْلُوكُ جَدِّهِ طُغْدِكِينَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ بِدِمَشْقَ قِيَامًا مَشْهُودًا، وَظَهَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِأُمُورِ الْحِصَارِ وَالْقِتَالِ وَكِفَايَتِهِ مَا لَمْ يُرَ وَمَا كَانَ سَبَبُ تَقَدُّمِهِ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأُمُورِ بِأَسْرِهَا، عَلَى مَا نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاصِرُهَا، وَصَلَ رَسُولُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ، وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ بِشْرٍ الْجَزَرِيُّ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ يَخْلَعُ لِأَتَابَكْ زَنْكِي، وَيَأْمُرُهُ بِمُصَالَحَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ