وَأَمَّا دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لِنَهْرِ مَلِكٍ، وَلَا غَيْرِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَنَّهُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَخَذَ الْبُرْسُقِيَّ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَهُ، وَسَأَلَ أَنْ يَخْرُجَ النَّاظِرُ إِلَى الْقُرَى الَّتِي لِخَاصِّ الْخَلِيفَةِ لِقَبْضِ دَخْلِهَا.
وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي حُزَيْرَانَ، وَحَمَى الْبَلَدَ، فَأَحْمَدَ الْخَلِيفَةُ فِعْلَهُ، وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ عَلَى وَزِيرِهِ جَلَالِ الدِّينِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ لِيَعُودَ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ وَدُورُ أَصْحَابِهِ وَالْمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ ابْنُ أَخِيهِ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الرِّضَا إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ خَبَرَ الْوَاقِعَةِ قَبَضَ عَلَى مَنْصُورِ بْنِ صَدَقَةَ، أَخِي دُبَيْسٍ، وَوَلَدِهِ، وَرَفَعَهُمَا إِلَى قَلْعَةِ بُرْحِينَ وَهِيَ تُجَاوِرُ كَرَجَ.
ثُمَّ إِنَّ دُبَيْسًا أَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَقْطَاعِهِمْ بِوَاسِطَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَمَنَعَهُمْ أَتْرَاكُ وَاسِطَ، فَجَهَّزَ دُبَيْسٌ إِلَيْهِمْ عَسْكَرًا مُقَدَّمُهُمْ مُهَلْهَلُ ابْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُظَفَّرِ بْنِ الْجَبْرِ بِالْبَطِيحَةِ لِيَتَّفِقَ مَعَ مُهَلْهَلٍ وَيُسَاعِدَهُ عَلَى قِتَالِ الْوَاسِطِيِّينَ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْوَاقِعَةُ تَاسِعَ رَجَبٍ، وَأَرْسَلَ الْوَاسِطِيُّونَ إِلَى الْبُرْسُقِيِّ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمَدَدَ، فَأَمَدَّهُمْ بِجَيْشٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَعَجَّلَ مُهَلْهَلٌ فِي عَسْكَرِ دُبَيْسٍ، وَلَمْ يَنْتَظِرِ الْمُظَفَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ بِمُفْرَدِهِ يَنَالُ مِنْهُمْ مَا أَرَادَ، وَيَنْفَرِدُ بِالْفَتْحِ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْوَاسِطِيُّونَ، ثَامِنَ رَجَبٍ، فَانْهَزَمَ مُهَلْهَلٌ وَعَسْكَرُهُ، وَظَفِرَ الْوَاسِطِيُّونَ، وَأُخِذَ مُهَلْهَلٌ أَسِيرًا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْعَسْكَرِ، وَقُتِلَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ قَتِيلٍ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْوَاسِطِيِّينَ غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْمُظَفَّرُ بْنُ أَبِي الْجَبْرِ فَإِنَّهُ أَصْعَدَ مِنَ الْبَطِيحَةِ وَنَهَبَ وَأَفْسَدَ، وَجَرَى مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَبِيحُ، فَلَمَّا قَارَبَ وَاسِطًا سَمِعَ بِالْهَزِيمَةِ، فَعَادَ مُنْحَدِرًا.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ الْعَسْكَرُ الْوَاسِطِيُّ مِنْ مُهَلْهَلٍ تَذْكِرَةٌ بِخَطِّ دُبَيْسٍ يَأْمُرُهُ فِيهَا بِقَبْضِ الْمُظَفَّرِ بْنِ أَبِي الْجَبْرِ وَمُطَالَبَتِهِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ أَخَذَهَا مِنَ الْبَطِيحَةِ، فَأَرْسَلُوا الْخَطَّ إِلَى الْمُظَفَّرِ، وَقَالُوا: هَذَا خَطُّ الَّذِي تَخْتَارُهُ، فَلَمَّا جَرَى عَلَى أَصْحَابِ دُبَيْسٍ مِنَ الْوَاسِطِيِّينَ مَا ذَكَرْنَاهُ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ فِي الشَّرِّ، وَبَلَغَهُ أَنَّ السُّلْطَانَ كَحَلَ أَخَاهُ، فَجَزَّ شَعْرَهُ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَنَهَبَ الْبِلَادَ، وَأَخَذَ كُلَّ مَا لِلْخَلِيفَةِ بِنَهْرِ الْمَلِكِ، فَأَجْلَى النَّاسَ إِلَى بَغْدَاذَ.