فَاسَ، وَجَاءَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا لَمَّا فَرَّ مِنْهَا الْعَسْكَرُ، وَلَقِيَهُ أَهْلُهَا بِالْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَدَخَلَهَا عَسْكَرُهُ، وَرَتَّبَ أَمْرَهَا، وَرَحَلَ عَنْهَا، وَجَعَلَ عَلَى أَقَادِيرَ جَيْشًا يَحْصُرُهَا، وَسَارَ إِلَى مَدِينَةِ فَاسَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ فَنَزَلَ عَلَى جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَيْهَا، وَحَصَرَهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَفِيهَا يَحْيَى بْنُ الصَّحْرَاوِيَّةِ، وَعَسْكَرُهُ الَّذِينَ فَرُّوا مِنْ تِلِمْسَانَ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَمَدَ إِلَى نَهْرٍ يَدْخُلُ الْبَلَدَ فَسَكَّرَهُ بِالْأَخْشَابِ وَالتُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنَعَهُ مِنَ دُخُولِ الْبَلَدِ، وَصَارَ بُحَيْرَةً تَسِيرُ فِيهَا السُّفُنُ، ثُمَّ هَدَمَ السَّكْرَ، فَجَاءَ الْمَاءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَخَرَّبَ سُورَ الْبَلَدِ، وَكُلَّ مَا يُجَاوِرُ النَّهْرَ مِنَ الْبَلَدِ، وَأَرَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهُ خَارِجَ السُّورِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ مَا قَدَّرَهُ مِنْ دُخُولِهِ.
وَكَانَ بِفَاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِيَارٍ الْجِيَانِيُّ عَامِلًا عَلَيْهَا، وَعَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِهَا، فَاتَّفَقَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ، وَكَاتَبُوا عَبْدَ الْمُؤْمِنِ فِي طَلَبِ الْأَمَانِ لِأَهْلِ فَاسَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا، فَدَخَلَهَا عَسْكَرُهُ، وَهَرَبَ يَحْيَى بْنُ الصَّحْرَاوِيَّةِ، وَكَانَ فَتْحُهَا آخِرَ سِنَةِ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَارَ إِلَى طَنْجَةَ وَرَتَّبَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَمْرَ مَدِينَةِ فَاسَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي أَهْلِهَا: مَنْ تَرَكَ عِنْدَهُ سِلَاحًا وَعِدَّةَ قِتَالٍ حَلَّ دَمُهُ، فَحَمَلَ كُلُّ مَنْ فِي الْبَلَدِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِكْنَاسَةَ، فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَجْنَادِ.
وَأَمَّا الْعَسْكَرُ الَّذِي كَانَ عَلَى تِلِمْسَانَ فَإِنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَهَا، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ، وَأَبْرَاجَ الْخَشَبِ، وَزَحَفُوا بِالدَّبَّابَاتِ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِهَا الْفَقِيهَ عُثْمَانَ، فَدَامَ الْحِصَارُ نَحْوَ سَنَةٍ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ وَرَاسَلُوا الْمُوَحِّدِينَ أَصْحَابَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، بِغَيْرِ عِلْمِ الْفَقِيهِ عُثْمَانَ، وَأَدْخَلُوهُمُ الْبَلَدَ، فَلَمْ يَشْعُرْ أَهْلُهُ إِلَّا وَالسَّيْفُ يَأْخُذُهُمْ، فَقُتِلَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ، وَسُبِيَتِ الذُّرِّيَّةُ وَالْحَرِيمُ، وَنُهِبَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ مَا لَا تُحَدُّ قِيمَتُهُ، وَمَنْ لَمْ يُقْتَلْ بِيعَ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْقَتْلَى مِائَةَ أَلْفِ قَتِيلٍ، وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُؤْمِنِ هُوَ الَّذِي حَصَرَ تِلِمْسَانَ، وَسَارَ مِنْهَا إِلَى فَاسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.