ذِكْرُ وَفَاةِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) ، تُوُفِّيَ أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْجَمَالِيُّ، صَاحِبُ الْجَيْشِ بِمِصْرَ، وَقَدْ جَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ هُوَ الْحَاكِمَ فِي دَوْلَةِ الْمُسْتَنْصِرِ، وَالْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ.
وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعِيَّةِ وَالْجُنْدِ بِدِمَشْقَ مَا خَافَ [مِنْهُ] عَلَى نَفْسِهِ، فَخَرَجَ عَنْهَا هَارِبًا، وَجَمَعَ وَحَشَدَ، وَقَدِمَ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِأَسْرِهِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ خَالَفَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهَرَبَ مِنْهُمْ سَنَةَ سِتِّينَ، وَخَرَّبَ الْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ مَضَى أَمِيرُ الْجُيُوشِ إِلَى مِصْرَ، وَتَقَدَّمَ بِهَا، وَصَارَ صَاحِبَ الْأَمْرِ.
قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ (عَبْدِ الرَّزَّاقِ) الْعُلَيْمِيُّ: قَصَدْتُ بَدْرًا الْجَمَالِيَّ بِمِصْرَ، فَرَأَيْتُ أَشْرَافَ النَّاسِ، وَكُبَرَاءَهُمْ، وَشُعَرَاءَهُمْ عَلَى بَابِهِ، قَدْ طَالَ مَقَامُهُمْ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَيَّنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ بَدْرٌ يُرِيدُ الصَّيْدَ، فَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فِي أَثَرِهِ، وَأَقَامَ إِلَى أَنْ رَجَعَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَمَّا قَارَبَهُ وَقَفَ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَأَوْمَأَ بِرُقْعَةٍ فِي يَدِهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نَحْنُ التِّجَارُ وَهَذِهِ أَعْلَاقُنَا ... دُرٌّ وَجَوْدُ يَمِينِكَ الْمُبْتَاعُ
قَلِّبْ وَفَتِّشْهَا بِسَمْعِكَ إِنَّمَا ... هِيَ جَوْهَرٌ تَخْتَارُهُ الْأَسْمَاعُ
كَسَدَتْ عَلَيْنَا بِالشَّآمِ وَكُلَّمَا ... قَلَّ النَّفَاقُ تَعَطَّلَ الصُّنَّاعُ
فَأَتَاكَ يَحْمِلُهَا إِلَيْكَ تِجَارُهَا ... وَمَطِيُّهَا الْآمَالُ وَالْأَطْمَاعُ
حَتَّى أَنَاخُوهَا بِبَابِكَ وَالرَّجَا ... مِنْ دُونِكَ السِّمْسَارُ وَالْبَيَّاعُ
فَوَهَبْتَ مَا لَمْ يُعْطِهِ فِي دَهْرِهِ ... هِرَمٌ وَلَا كَعْبٌ وَلَا الْقَعْقَاعُ
وَسَبَقْتَ هَذَا النَّاسَ فِي طَلَبِ الْعُلَى ... فَالنَّاسُ بَعْدَكَ كُلُّهُمْ أَتْبَاعُ
يَا بَدْرُ أَقْسِمُ لَوْ بِكَ اعْتَصَمَ الْوَرَى ... وَلَجُوا إِلَيْكَ جَمِيعُهُمْ مَا ضَاعُوا