قَتْلِهِ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَاجْتَمَعَ بِخَادِمٍ يَخْتَصُّ بِخِدْمَةِ جَمَالِ الْمُلْكِ، وَقَالَ لَهُ سِرًّا: الْأَوْلَى أَنْ تَحْفَظُوا نِعْمَتَكُمْ، وَمَنَاصِبَكُمْ، وَتُدَبِّرَ فِي قَتْلِ جِمَالِ الْمُلْكِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَقْتُلَهُ، وَلَأَنْ تَقْتُلُوهُ أَنْتُمْ سِرًّا أَصْلَحُ لَكُمْ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ السُّلْطَانُ ظَاهِرًا. فَظَنَّ الْخَادِمُ أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ، فَجَعَلَ لَهُ سُمًّا فِي كُوزِ فُقَّاعٍ، فَطَلَبَ جَمَالُ الْمُلْكِ فُقَّاعًا، فَأَعْطَاهُ الْخَادِمُ ذَلِكَ الْكُوزَ، فَشَرِبَهُ فَمَاتَ، فَلَمَّا عَلِمَ السُّلْطَانُ بِمَوْتِهِ سَارَ مُجِدًّا، حَتَّى لَحِقَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَعْلَمَهُ بِمَوْتِ ابْنِهِ، وَعَزَّاهُ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى مَنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ.
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ بِبَغْدَاذَ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَرَدَ إِلَى بَغْدَاذَ هَذِهِ السَّنَةَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَكْرِيُّ، الْمَغْرِبِيُّ، الْوَاعِظُ، وَكَانَ أَشْعَرِيُّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ نِظَامَ الْمُلْكِ، فَأَحَبَّهُ وَمَالَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَاذَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْجِرَايَةَ الْوَافِرَةَ، فَوَعَظَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ يَذْكُرُ الْحَنَابِلَةَ وَيَعِيبُهُمْ، وَيَقُولُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] ، وَاللَّهِ مَا كَفَرَ أَحْمَدُ وَلَكِنَّ أَصْحَابَهُ كَفَرُوا.
ثُمَّ إِنَّهُ قَصَدَ يَوْمًا دَارَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ بِنَهْرِ الْقَلَّائِينَ، فَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مُشَاجَرَةٌ أَدَّتْ إِلَى الْفِتْنَةِ، وَكَثُرَ جَمْعُهُ، فَكَبَسَ دُورَ بَنِي الْفَرَّاءِ، وَأَخَذَ كُتُبَهُمْ، وَأَخَذَ مِنْهَا كِتَابَ الصِّفَاتِ (لِأَبِي يَعْلَى) فَكَانَ يُقْرَأُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْكُرْسِيِّ لِلْوَعْظِ، فَيُشَنِّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَرَى لَهُ مَعَهُمْ خُصُومَاتٌ وَفِتَنٌ، وَلُقِّبَ الْبَكْرِيُّ مِنَ الدِّيوَانِ بِعَلَمِ السُّنَّةِ، وَمَاتَ بِبَغْدَاذَ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ.