ثُمَّ إِنَّ أَبَا رَكْوَةَ جَمَعَهُمْ وَسَارَ إِلَى بَرْقَةَ، وَاسْتَقَرَّ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مِنَ الْغَنَائِمِ لَهُ، وَالثُّلُثَانِ لِبَنِي قُرَّةَ وَزِنَاتَةَ، فَلَمَّا قَارَبَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ وَالِيهَا، فَالْتَقَوْا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ الْحَاكِمِ، وَمَلَكَ أَبُو رَكْوَةَ بَرْقَةَ، وَقَوِيَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ بِمَا أَخَذُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ، وَنَادَى بِالْكَفِّ عَنِ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْبِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ.
فَلَمَّا وَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْحَاكِمِ عَظُمَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ وَمُلْكُهُ، وَعَاوَدَ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ، وَالْكَفَّ عَنْ أَذَاهُمْ، وَنَدَبَ عَسْكَرًا نَحْوَ خَمْسَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَسَيَّرَهُمْ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ قَائِدًا يُعْرَفُ بِيَنَالَ الطَّوِيلِ، وَسَيَّرَهُ، فَبَلَغَ ذَاتَ الْحَمَّامِ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرْقَةَ مَفَازَةٌ فِيهَا مَنْزِلَانِ، لَا يَلْقَى السَّالِكُ الْمَاءَ إِلَّا فِي آبَارٍ عَمِيقَةٍ بِصُعُوبَةٍ وَشِدَّةٍ. فَسَيَّرَ أَبُو رَكْوَةَ قَائِدًا فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى يَنَالَ وَمَنْ مَعَهُ وَمُطَارَدَتِهِمْ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْزِلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا عَادُوا أَنْ يُغَوِّرُوا الْآبَارَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَعَادُوا، فَحِينَئِذٍ سَارَ أَبُو رَكْوَةَ فِي عَسَاكِرِهِ وَلَقِيَهُمْ وَقَدْ خَرَجُوا مِنَ الْمَفَازَةِ عَلَى ضَعْفٍ وَعَطَشٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، فَحَمَلَ يَنَالُ عَلَى عَسْكَرِ أَبِي رَكْوَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَبُو رَكْوَةَ وَاقِفٌ لَمْ يَحْمِلْ هُوَ وَلَا عَسْكَرُهُ، فَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُتَامَةَ لِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْأَذَى وَالْقَتْلِ مِنَ الْحَاكِمِ، وَأَخَذُوا الْأَمَانَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَلَحِقَهُمُ الْبَاقُونَ، فَحَمَلَ حِينَئِذٍ بِهِمْ عَلَى عَسَاكِرِ الْحَاكِمِ، فَانْهَزَمَتْ وَأُسِرَ يَنَالُ وَقُتِلَ، وَأُسِرَ أَكْثَرُ عَسْكَرِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعَادَ إِلَى بَرْقَةَ وَقَدِ امْتَلَأَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ، وَأَقَامَ بِبَرْقَةَ، وَتَرَدَّدَتْ سَرَايَاهُ إِلَى الصَّعِيدِ وَأَرْضِ مِصْرَ، وَقَامَ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَدَ، وَسَقَطَ فِي يَدِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا فَرَّطَ، وَفَرِحَ جُنْدُ مِصْرَ وَأَعْيَانُهَا، وَعَلِمَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ قَلَقُهُ، وَأَظْهَرَ الِاعْتِذَارَ عَنِ الَّذِي فَعَلَهُ.
وَكَتَبَ النَّاسُ إِلَى أَبِي رَكْوَةَ يَسْتَدْعُونَهُ، وَمِمَّنْ كَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ جَوْهَرٍ الْمَعْرُوفُ بِقَائِدِ الْقُوَّادِ، فَسَارَ حِينَئِذٍ عَنْ بَرْقَةَ إِلَى الصَّعِيدِ، وَعَلِمَ الْحَاكِمُ، فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَجَمَعَ عَسَاكِرَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى الشَّامِ يَسْتَدْعِي