ثُمَّ سَارَ عَنْ أَصْبَهَانَ فِي رَجَبٍ نَحْوَ الرَّيِّ، فَدَامَ مَرَضُهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَأُصِيبَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا لِاسْتِكْمَالِ جَمِيعِ خِلَالِ الْخَيْرِ فِيهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ قَدْ زَادَ عَلَى سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
ذِكْرُ بَعْضِ سِيرَتِهِ
كَانَ حَلِيمًا، كَرِيمًا وَاسِعَ الْكَرَمِ، كَثِيرَ الْبَذْلِ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ لِرَعَايَاهُ وَجُنْدِهِ، رَءُوفًا بِهِمْ، عَادِلًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ بَعِيدَ الْهِمَّةِ، عَظِيمَ الْجِدِّ وَالسَّعَادَةِ، مُتَحَرِّجًا مِنَ الظُّلْمِ، مَانِعًا لِأَصْحَابِهِ مِنْهُ، عَفِيفًا عَنِ الدِّمَاءِ، يَرَى حَقْنَهَا وَاجِبًا إِلَّا فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَكَانَ يُحَامِي عَلَى أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَكَانَ يُجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَيَصُونُهُمْ عَنِ التَّبَذُّلِ، وَكَانَ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ الْجَامِعَةَ، فِي أَشْهُرِ الصِّيَامِ، لِلصَّلَاةِ، وَيَنْتَصِبُ لِرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَيَتَعَهَّدُ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَيَلِينُ جَانِبُهُ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ.
قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ،، وَذَكَرَ لَهُ شَدَّ مَرْدَاوِيجَ، فَقَالَ: انْظُرُ كَيْفَ اخْتُرِمَ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ أَخَصُّ أَصْحَابِهِ بِهِ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْهُ لِعُنْفِهِ وَشِدَّتِهِ، وَكَيْفَ عَمَّرْتُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ لِلِينِ جَانِبِي.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَارَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلَ فِي خَرْكَاةٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ قَبْلَ أَصْحَابِهِ، وَقُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لِأَيٍّ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: خَيْرُ الْأَشْيَاءِ فِي الْقَرْيَةِ الْإِمَارَةُ؟ فَقَالَ صَاحِبُهُ: لِقُعُودِكَ فِي الْخَرْكَاةِ، وَهَذَا الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا لَا خَرْكَاةَ وَلَا طَعَامَ، فَضَحِكَ وَأَعْطَاهُ الْخَرْكَاةَ وَالطَّعَامَ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْخُلُقِ مَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَجْمَلَهُ.
وَفِي فِعْلِهِ فِي حَادِثَةِ بَخْتِيَارَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مُرُوءَتِهِ وَحُسْنِ عَهْدِهِ، وَصِلَتِهِ لِرَحِمِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَأَرْضَاهُ، وَكَانَ لَهُ حُسْنُ عَهْدٍ وَمَوَدَّةٍ وَإِقْبَالٍ) .