فَضَمَّهُ جَذِيمَةُ إِلَيْهِ وَالْتَزَمَهُ وَسُرَّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَأَمَرَ فَجُعِلَ لَهُ حُلِيٌّ مِنْ فِضَّةٍ وَطَوْقٌ، فَكَانَ أَوَّلَ عَرَبِيٍّ أُلْبِسَ طَوْقًا.
فَبَيْنَا هُوَ عَلَى أَحْسَنِ حَالَةٍ إِذِ اسْتَطَارَتْهُ الْجِنُّ، فَطَلَبَهُ جَذِيمَةُ فِي الْآفَاقِ زَمَانًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَلْقِينِ قُضَاعَةَ، يُقَالُ لَهُمَا: مَالِكٌ وَعَقِيلٌ ابْنَا فَارِجِ بْنِ مَالِكٍ مِنَ الشَّامِ يُرِيدَانِ جَذِيمَةَ، وَأَهْدَيَا لَهُ طُرَفًا، فَنَزَلَا مَنْزِلًا وَمَعَهُمَا قَيْنَةٌ لَهُمَا تُسَمَّى أُمَّ عَمْرٍو، فَقَدَّمَتْ طَعَامًا. فَبَيْنَمَا هُمَا يَأْكُلَانِ إِذْ أَقْبَلَ فَتًى عُرْيَانٌ قَدْ تَلَبَّدَ شَعْرُهُ وَطَالَتْ أَظَافِرُهُ وَسَاءَتْ حَالُهُ، فَجَلَسَ نَاحِيَةً عَنْهُمَا وَمَدَّ يَدَهُ يَطْلُبُ الطَّعَامَ، فَنَاوَلَتْهُ الْقَيْنَةُ كُرَاعًا فَأَكَلَهَا، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ ثَانِيَةً، فَقَالَتْ: لَا تُعْطِ الْعَبْدَ كُرَاعًا فَيَطْمَعَ فِي الذِّرَاعِ! فَذَهَبَتْ مَثَلًا، ثُمَّ سَقَتْهُمَا مِنْ شَرَابٍ مَعَهَا وَأَوْكَتْ زِقَّهَا، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَدِيٍّ:
صَدَدْتِ الْكَأْسَ عَنَّا أُمَّ عَمْرٍو ... وَكَانَ الْكَأْسُ مَجْرَاهَا الْيَمِينَا
وَمَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ أُمَّ عَمْرٍو ... بِصَاحِبِكِ الَّذِي لَا تُصْبِحِينَا
فَسَأَلَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنْ تُنْكِرَانِي أَوْ تُنْكِرَا نَسَبِي، فَإِنِّي أَنَا عَمْرُو بْنُ عَدِيِّ بْنِ تَنُوخِيَةَ اللَّخْمِيُّ، وَغَدًا مَا تَرَيَانِي فِي نُمَارَةَ غَيْرَ مَعْصِيٍّ.
فَنَهَضَا وَغَسَلَا رَأَسَهُ وَأَصْلَحَا حَالَهُ وَأَلْبَسَاهُ ثِيَابًا وَقَالَا: مَا كُنَّا لِنَهْدِيَ لِجَذِيمَةَ أَنْفَسَ مِنِ ابْنِ أُخْتِهِ! فَخَرَجَا بِهِ إِلَى جَذِيمَةَ، فَسُرَّ بِهِ سُرُورًا شَدِيدًا وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ ذَهَبَ وَعَلَيْهِ طَوْقٌ، فَمَا ذَهَبَ مِنْ عَيْنِي وَقَلْبِي إِلَى السَّاعَةِ، وَأَعَادُوا عَلَيْهِ الطَّوْقَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: " شَبَّ عَمْرٌو عَنِ الطَّوْقِ "، وَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، وَقَالَ لِمَالِكٍ وَعَقِيلٍ: حُكْمُكُمَا. قَالَا: حُكْمُنَا مُنَادَمَتُكَ مَا بَقِينَا وَبَقِيتَ، فَهُمَا نُدْمَانَا جَذِيمَةَ اللَّذَانِ يُضْرَبَانِ مَثَلًا.