عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَامِلُ الْخَرَاجِ إِلَى هِشَامٍ يُخْبِرُهُ بِأَخْذِ ابْنِ الْعَمَرَّسِ وَأَصْحَابِهِ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ أَحَدًا مِنْ مَوَالِي خَالِدٍ. فَكَتَبَ هِشَامٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَشْتُمُهُ وَيَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِ آلِ خَالِدٍ، فَأَطْلَقَهُمْ وَتَرَكَ الْمَوَالِيَ رَجَاءَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ خَالِدٌ إِذَا قَدِمَ مِنَ الصَّائِفَةِ.
ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَهُ فِي دِمَشْقَ فَأَذِنَ لِلنَّاسِ، فَقَامَ بَنَاتُهُ يَحْتَجِبْنَ، فَقَالَ: لَا تَحْتَجِبْنَ فَإِنَّ هِشَامًا كُلَّ يَوْمٍ يَسُوقُكُنَّ إِلَى الْحَبْسِ، فَدَخَلَ النَّاسُ، فَقَامَ أَوْلَادُهُ يَسْتُرُونَ النِّسَاءَ، فَقَالَ خَالِدٌ: خَرَجْتُ غَازِيًا سَامِعًا مُطِيعًا فَخُلِفْتُ فِي عَقِبِي وَأُخِذَ حُرَمِي وَأَهْلُ بَيْتِي فَحُبِسُوا مَعَ أَهْلِ الْجَرَائِمِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُشْرِكِينَ، فَمَا مَنَعَ عِصَابَةً مِنْكُمْ أَنْ تَقُولُوا عَلَامَ حُبِسَ حُرَمُ هَذَا السَّامِعِ الْمُطِيعِ؟ أَخِفْتُمْ أَنْ تُقْتَلُوا جَمِيعًا؟ أَخَافَكُمُ اللَّهُ! ثُمَّ قَالَ: مَا لِي وَلِهِشَامٍ؟ لَيَكُفُّنَّ عَنِّي أَوْ لَأَدْعُوَنَّ إِلَى عِرَاقِيِّ الْهَوَى، شَامِيِّ الدَّارِ، حِجَازِيِّ الْأَصْلِ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ أَنْ تُبْلِغُوا هِشَامًا، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَالَ: قَدْ خَرِفَ أَبُو الْهَيْثَمِ.
وَتَتَابَعَتْ كُتُبُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ إِلَى هِشَامٍ يَطْلُبُ مِنْهُ يَزِيدَبْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ هِشَامٌ إِلَى كُلْثُومٍ يَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِ يَزِيدَبْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَطَلَبَهُ، فَهَرَبَ، فَاسْتَدْعَى خَالِدًا فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَحَبَسَهُ، فَسَمِعَ هِشَامٌ فَكَتَبَ إِلَى كُلْثُومٍ يَلُومُهُ وَيَأْمُرُهُ بِتَخْلِيَتِهِ، فَأَطْلَقَهُ.
وَكَانَ هِشَامٌ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا أَمَرَ الْأَبْرَشَ الْكَلْبِيَّ فَكَتَبَ بِهِ إِلَى خَالِدٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْأَبْرَشُ: إِنَّهُ بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَكَ يَا خَالِدُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِعَشْرِ خِصَالٍ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ وَأَنْتَ كَرِيمٌ، وَاللَّهُ جَوَادٌ وَأَنْتَ جَوَادٌ، وَاللَّهُ رَحِيمٌ وَأَنْتَ رَحِيمٌ، حَتَّى عَدَّ عَشْرًا، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَيَقْتُلَنَّكَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ كَانَ أَكْثَرَ أَهْلًا مِنْ أَنْ يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْفُجُورِ أَنْ يُحَرِّفَ مَا كَانَ فِيهِ، إِنَّمَا قَالَ لِي: يَا خَالِدُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِعَشْرِ خِصَالٍ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ كُلَّ كَرِيمٍ، وَاللَّهُ يُحِبُّكَ فَأَنَا أُحِبُّكَ، حَتَّى عَدَّ عَشْرَ خِصَالٍ. وَلَكِنْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ ابْنِ شَقِيٍّ الْحِمْيَرِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلِيفَتُكَ فِي أَهْلِكَ أَكْرَمُ عَلَيْكَ أَمْ رَسُولُكَ فِي حَاجَتِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي. فَقَالَ ابْنُ شَقِيٍّ: فَأَنْتَ خَلِيفَةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُهُ، وَضَلَالُ رَجُلٍ مِنْ بَجِيلَةَ، يَعْنِي نَفْسَهُ، أَهْوَنُ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ ضَلَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا قَرَأَ هِشَامٌ كِتَابَهُ قَالَ: خَرِفَ أَبُو الْهَيْثَمِ!