لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ وَرَحَّبَ بِهِ وَعَانَقَهُ، وَأَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ عُرْوَةُ:
مَتَّتْ بِأَرْحَامٍ إِلَيْكَ قَرِيبَةٍ ... وَلَا قُرْبَ لِلْأَرْحَامِ مَا لَمْ تُقَرَّبِ
ثُمَّ تَحَدَّثَا حَتَّى جَرَى ذِكْرُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّهُ كَانَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قُتِلَ. فَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ صَلَبَهُ، فَهَبْ جُثَّتَهُ لِأُمِّهِ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعَظِّمُ صَلْبَهُ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ لَمَّا فَقَدَ عُرْوَةَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ عُرْوَةَ كَانَ مَعَ أَخِيهِ، فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ أَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِ اللَّهِ فَهَرَبَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّهُ لَمْ يَهْرَبْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي مُبَايِعًا وَقَدْ آمَنْتُهُ وَحَلَّلْتُهُ مِمَّا كَانَ، وَهُوَ قَادِمٌ عَلَيْكَ فَإِيَّاكَ وَعُرْوَةَ. وَعَادَ عُرْوَةُ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
فَأَنْزَلَ الْحَجَّاجُ جُثَّةَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْخَشَبَةِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ، فَغَسَّلَتْهُ، فَلَمَّا أَصَابَهُ الْمَاءُ تَقَطَّعَ، فَغَسَّلَتْهُ عُضْوًا عُضْوًا فَاسْتَمْسَكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُرْوَةُ، فَدَفَنَتْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ عُرْوَةَ لَمَّا كَانَ غَائِبًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَعَاوَدَهُ فِي إِنْفَاذِ عُرْوَةَ إِلَيْهِ، فَهَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِإِنْفَاذِهِ فَقَالَ عُرْوَةُ: لَيْسَ الذَّلِيلُ مَنْ قَتَلْتُمُوهُ، وَلَكِنَّ الذَّلِيلَ مَنْ مَلَكْتُمُوهُ، وَلَيْسَ بِمَلُومٍ مَنْ صَبَرَ فَمَاتَ، وَلَكِنَّ الْمَلُومَ مَنْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ. فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَنْ تَسْمَعَ مِنَّا شَيْئًا تَكْرَهُهُ.
وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، مَنَعَ الْحَجَّاجُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِدَفْنِهِ، وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ عُرْوَةَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُلْقِيَ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ قَلِيلًا وَمَاتَتْ، وَكَانَتْ قَدْ أُضِرَّتْ، وَهِيَ أُمُّ عُرْوَةَ أَيْضًا.
فَلَمَّا فَرَغَ الْحَجَّاجُ مِنْ أَمْرِ ابْنِ الزُّبَيْرِ دَخَلَ مَكَّةَ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَمَرَ بِكَنْسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالدَّمِ، وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ، فَأَسَاءَ إِلَى أَهْلِهَا وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ، وَقَالَ: أَنْتُمْ قَتَلَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَخَتَمَ أَيْدِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالرُّصَاصِ اسْتِخْفَافًا بِهِمْ، كَمَا يُفْعَلُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،