ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ بَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ وَادَعَ الزُّبَيْرَ لِيَكُفَّ عَنْهُ لِيَتَفَرَّغَ لِأَهْلِ الشَّامِ. فَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ مَرْوَانَ قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ جَيْشًا، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَمْدَدْتُكَ بِمَدَدٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي فَبَايِعْ لِيَ النَّاسَ قِبَلَكَ، وَعَجِّلْ إِنْقَاذَ الْجَيْشِ، وَمُرْهُمْ لِيَسِيرُوا إِلَى مَنْ بِوَادِي الْقُرَى مِنْ جُنْدِ ابْنِ مَرْوَانَ فَلْيُقَاتِلُوهُمْ، وَالسَّلَامُ.
فَدَعَا الْمُخْتَارُ شُرَحْبِيلَ بْنَ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، فَسَيَّرَهُ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمَوَالِي، وَلَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا دَخَلْتَهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. وَهُوَ يُرِيدُ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، ثُمَّ يَأْمُرَ ابْنَ وَرْسٍ بِمُحَاصَرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ. وَخَشِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ إِنَّمَا يَكِيدُهُ، فَبَعَثَ مِنْ مَكَّةَ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي أَلْفَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَنْفِرَ الْأَعْرَابَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، وَإِلَّا فَكَايِدْهُمْ حَتَّى تُهْلِكَهُمْ.
فَأَقْبَلَ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ بِالرَّقِيمِ وَقَدْ عَبَّأَ ابْنُ وَرْسٍ أَصْحَابَهُ، وَأَتَى عَبَّاسٌ وَقَدْ تَقَطَّعَ أَصْحَابُهُ، وَرَأَى ابْنَ وَرْسٍ عَلَى الْمَاءِ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَدَنَا مِنْهُمْ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِ وَرْسٍ سِرًّا: أَلَسْتُمْ عَلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَسِرْ بِنَا عَلَى عَدُوِّهِ الَّذِي بِوَادِي الْقُرَى.
فَقَالَ ابْنُ وَرْسٍ: مَا أُمِرْتُ بِطَاعَتِكُمْ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ آتِيَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا أَتَيْتُهَا رَأَيْتُ رَأْيِي. فَقَالَ لَهُ عَبَّاسٌ: إِنْ كُنْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُسَيِّرَكُمْ إِلَى وَادِي الْقُرَى. (فَقَالَ: لَا أَتْبَعُكَ، أَقْدُمُ الْمَدِينَةَ وَأَكْتُبُ إِلَى صَاحِبِي، فَيَأْمُرُنِي بِأَمْرِهِ. فَقَالَ عَبَّاسٌ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ. وَفَطِنَ لِمَا يُرِيدُ وَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَسَائِرٌ إِلَى وَادِي الْقُرَى) .
وَنَزَلَ عَبَّاسٌ وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ وَرْسٍ بِجَزَائِرَ وَغَنَمٍ مُسَلَّخَةٍ، وَكَانُوا قَدْ مَاتُوا جُوعًا، فَذَبَحُوا وَاشْتَغَلُوا بِهَا وَاخْتَلَطُوا عَلَى الْمَاءِ، وَجَمَعَ عَبَّاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَقْبَلَ نَحْوَ فُسْطَاطِ ابْنِ وَرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَادَى فِي أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ إِلَيْهِ مِائَةُ رَجُلٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ عَبَّاسٌ، وَاقْتَتَلُوا يَسِيرًا، فَقُتِلَ ابْنُ وَرْسٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ، وَرَفَعَ عَبَّاسٌ رَايَةَ أَمَانٍ لِأَصْحَابِ ابْنِ وَرْسٍ، فَأَتَوْهَا إِلَّا نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حِمْيَرٍ الْهَمْدَانِيِّ وَعَبَّاسِ بْنِ جَعْدَةَ الْجَدَلِيِّ، فَظَفِرَ ابْنُ سَهْلٍ مِنْهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْنِ فَقَتَلَهُمْ، وَأَفْلَتَ الْبَاقُونَ فَرَجَعُوا، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِي الطَّرِيقِ.