فَقَالَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: قَدْ أَبَيْنَا هَذَا وَنَحْنُ فِي مِصْرِنَا، فَحِينَ وَطَّنَا أَنْفُسَنَا عَلَى الْجِهَادِ وَدَنَوْنَا مِنْ أَرْضِ عَدُوِّنَا، مَا هَذَا بِرَأْيٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ يَشْكُرُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقُولُ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَبْشَرُوا بِبَيْعِهِمْ أَنْفُسَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ، وَإِنَّهُمْ قَدْ تَابُوا مِنْ عَظِيمِ ذَنْبِهِمْ وَتَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَرَضُوا بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اسْتَمَاتَ الْقَوْمُ، أَوَّلُ خَبَرٍ يَأْتِيكُمْ عَنْهُمْ قَتْلُهُمْ، وَاللَّهِ لَيُقْتَلُنَّ كِرَامًا مُسْلِمِينَ.
ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى قَرْقِيسْيَا عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَبِهَا زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ قَدْ تَحَصَّنَ بِهَا مِنْهُمْ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ سُوقًا، فَأَتَى الْمُسَيَّبُ إِلَى بَابِ قَرْقِيسْيَا فَعَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ وَطَلَبَ الْإِذْنَ عَلَى زُفَرَ، فَأَتَى هُذَيْلَ بْنِ زُفَرَ أَبَاهُ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ اسْمُهُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ.
فَقَالَ أَبُوهُ: أَمَا تَدْرِي يَا بُنَيَّ مَنْ هَذَا؟ هَذَا فَارِسُ مُضَرَ الْحَمْرَاءِ كُلِّهَا، إِذَا عُدَّ مِنْ أَشْرَافِهَا عَشْرَةٌ كَانَ أَحَدَهُمْ هُوَ، وَهُوَ بَعْدُ رَجُلٌ نَاسِكٌ لَهُ دِينٌ، إِيذَنْ لَهُ.
فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَسَأَلَهُ، فَعَرَّفَهُ الْمُسَيَّبُ حَالَهُ وَمَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ زُفَرُ: إِنَّا لَمْ نُغْلِقْ أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ إِلَّا لِنَعْلَمَ إِيَّانَا تُرِيدُونَ أَمْ غَيْرَنَا، وَمَا بِنَا عَجْزٌ عَنِ النَّاسِ وَمَا نُحِبُّ قِتَالَكُمْ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْكُمْ صَلَاحٌ وَسِيرَةٌ جَمِيلَةٌ.
ثُمَّ أَمَرَ ابْنَهُ فَأَخْرَجَ لَهُمْ سُوقًا، وَأَمَرَ لِلْمُسَيَّبِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَفَرَسٍ، فَرَدَّ الْمَالَ وَأَخَذَ الْفَرَسَ وَقَالَ: لَعَلِّي أَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنَّ عَرَجَ فَرَسِي.
وَبَعَثَ زُفَرُ إِلَيْهِمْ بِخُبْزٍ كَثِيرٍ وَعَلَفٍ وَدَقِيقٍ حَتَّى اسْتَغْنَى النَّاسُ عَنِ السُّوقِ، إِلَّا أَنَّ الرَّجُلُ كَانَ يَشْتَرِي سَوْطًا أَوْ ثَوْبًا.
ثُمَّ ارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ يُشَيِّعُهُمْ وَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: إِنَّهُ قَدْ سَارَ خَمْسَةُ أُمَرَاءَ مِنَ الرَّقَّةِ هُمُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ، وَجَبَلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِثْلِ الشَّوْكِ وَالشَّجَرِ، فَإِنْ شِئْتُمْ دَخَلْتُمْ مَدِينَتَنَا وَكَانَتْ أَيْدِينَا وَاحِدَةً، فَإِذَا جَاءَنَا هَذَا الْعَدُوُّ قَاتَلْنَاهُمْ جَمِيعًا.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ: قَدْ طَلَبَ أَهْلُ مِصْرِنَا ذَلِكَ مِنَّا فَأَبَيْنَا عَلَيْهِمْ.
قَالَ زُفَرُ: فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ وَهِيَ رَأْسُ عَيْنٍ فَاجْعَلُوا الْمَدِينَةَ فِي