فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: لِلَّهِ أَبُوكَ أَيَّ امْرِئٍ وَلَدَ!
ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِيهِ! فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْكَ عَبْدُ الْمَلِكِ؟ قَالَ: بَلَى، وَأَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ الْمَلِكِ! قَلَّ مَا كَلَّمْتُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ رَجُلًا بِهِ شَبِيهًا.
فَقَالَ مَرْوَانُ: إِذَا لَقِيتَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَقَدْ لَقِيتَنِي.
ثُمَّ (إِنَّهُ صَارَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَصْنَعُ) مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَاءَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ مُسْلِمٌ فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزْعُمُ أَنَّكُمُ الْأَصْلُ، وَإِنِّي أَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنِّي أُؤَجِّلُكُمْ ثَلَاثًا، فَمَنِ ارْعَوَى وَرَاجَعَ الْحَقَّ قَبِلْنَا مِنْهُ وَانْصَرَفْتُ عَنْكُمْ وَسِرْتُ إِلَى هَذَا الْمَحَلِّ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ كُنَّا قَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكُمْ.
فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَا تَصْنَعُونَ، أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟
فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا بَلِ ادْخُلُوا فِي الطَّاعَةِ وَنَجْعَلُ جِدَّنَا وَشَوْكَتَنَا عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمُلْحِدِ الَّذِي قَدْ جَمَعَ إِلَيْهِ الْمُرَّاقَ وَالْفُسَّاقَ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالُوا لَهُ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَجُوزُوا إِلَيْهِ مَا تَرَكْنَاكُمْ، نَحْنُ نَدَعُكُمْ أَنْ تَأْتُوا بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ فَتُخِيفُوا أَهْلَهُ وَتُلْحِدُوا فِيهِ وَتَسْتَحِلُّوا حُرْمَتَهُ؟ ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ.
وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَدِ اتَّخَذُوا خَنْدَقًا وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ عَلَى رُبُعٍ آخَرَ، وَهُمْ قُرَيْشٌ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَلَى رُبُعٍ آخَرَ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَانَ أَمِيرُ جَمَاعَتِهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ الْأَنْصَارِيَّ فِي أَعْظَمِ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ، وَهُمُ الْأَنْصَارُ.
وَصَمَدَ مُسْلِمٌ فِيمَنْ مَعَهُ، فَأَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى ضَرَبَ فُسْطَاطَهُ عَلَى طَرِيقِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَمَرَ فَوُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَقَالَ يَا أَهْلَ الشَّامِ قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ وَادْعُوا. فَأَخَذُوا لَا يَقْصِدُونَ رُبُعًا مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَاعِ إِلَّا هَزَمُوهُ، ثُمَّ وَجَّهَ الْخَيْلَ نَحْوَ ابْنِ الْغَسِيلِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْغَسِيلِ فِيمَنْ مَعَهُ فَكَشَفَهُمْ، فَانْتَهَوْا إِلَى مُسْلِمٍ، فَنَهَضَ فِي وُجُوهِهِمْ بِالرِّجَالِ وَصَاحَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا.