قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ زَالَ الْفَيْرُزَانُ وَالْهُرْمُزَانُ، فَتَأَخَّرَا وَثَبَتَا حَيْثُ انْتَهَيَا، وَانْفَرَجَ الْقَلْبُ، وَرَكَدَ عَلَيْهِمُ النَّقْعُ وَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَلَعَتْ طَيَّارَةَ رُسْتُمَ عَنْ سَرِيرِهِ، فَهَوَتْ فِي الْعَتِيقِ، وَهِيَ دَبُورُ، وَمَالَ الْغُبَارُ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَى الْقَعْقَاعُ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى السَّرِيرِ فَعَثَرُوا بِهِ، وَقَدْ قَامَ رُسْتُمُ عَنْهُ حِينَ أَطَارَتِ الرِّيحُ الطَّيَّارَةَ إِلَى بِغَالٍ قَدْ قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِمَالٍ، فَهِيَ وَاقِفَةٌ، فَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ بَغْلٍ وَحِمْلِهِ، وَضَرَبَ هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ الْحِمْلَ الَّذِي تَحْتَهُ رُسْتُمُ، فَقَطَعَ حِبَالَهُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْعِدْلَيْنِ، وَلَا يَرَاهُ هِلَالٌ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، فَأَزَالَ عَنْ ظَهْرِهِ فَقَارًا، وَضَرَبَهُ هِلَالٌ ضَرْبَةً فَنَفَحَتْ مِسْكًا. وَمَضَى رُسْتُمُ نَحْوَ الْعَتِيقِ فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِيهِ، وَاقْتَحَمَهُ هِلَالٌ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِرِجْلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فَضَرَبَ جَبِينَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ أَرْجُلِ الْبِغَالِ، ثُمَّ صَعِدَ السَّرِيرَ وَقَالَ: قَتَلْتُ رُسْتُمَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ! إِلَيَّ إِلَيَّ! فَأَطَافُوا بِهِ وَكَبَّرُوا، فَنَفَّلَهُ سَعْدٌ سَلَبَهُ، وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِقَلَنْسُوَتِهِ، وَلَوْ ظَفِرَ بِهَا لَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ أَلْفٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ هِلَالًا لَمَّا قَصَدَ رُسْتُمَ رَمَاهُ رُسْتُمُ بِنَشَّابَةٍ أَثْبَتْ قَدَمَهُ بِالرِّكَابِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلَالٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَعَلَّقَهُ وَنَادَى: قَتَلْتُ رُسْتُمَ! فَانْهَزَمَ قَلْبُ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَامَ الْجَالِينُوسُ عَلَى الرَّدْمِ، وَنَادَى الْفُرْسَ إِلَى الْعُبُورِ، وَأَمَّا الْمُقْتَرِنُونَ فَإِنَّهُمْ جَشِعُوا فَتَهَافَتُوا فِي الْعَتِيقِ، فَوَخَزَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِرِمَاحِهِمْ، فَمَا أَفْلَتَ مُخْبِرٌ، وَهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا. وَأَخَذَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ " دِرَقْشَ كَابِيَانَ "، وَهُوَ الْعَلَمُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ لِلْفُرْسِ، فَعُوِّضَ مِنْهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ. وَقَتَلُوا فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ سِوَى مَنْ قَتَلُوا فِي الْأَيَّامِ قَبْلَهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهِرِيرِ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ وَيَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ سِتَّةُ آلَافٍ، فَدُفِنُوا فِي الْخَنْدَقِ حِيَالَ مُشَرِّقٍ، وَدُفِنَ مَا كَانَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَجُمِعَتِ الأَسْلَابُ وَالْأَمْوَالُ فَجُمِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُجْمَعْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ.
وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى هِلَالٍ فَسَأَلَهُ عَنْ رُسْتُمَ، فَأَحْضَرَهُ، فَقَالَ: جَرِّدْهُ إِلَّا مَا شِئْتَ.